إلزام: يقال لهم: ألستم تحبون أن تحمدوا على الإيمان وفعل الطاعات ؟ فلا بد من بلى، فيقال: إن الله تعالى يقول: ?لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ?{آل عمران:188}، ويقال: أليس الله تعالى نفى عن نفسه الظلم والكذب والعبث، وعندكم أنه لم يقع شيء ولا يدخل في الوجود الخارجي إلا بفعله وإرادته، فصار نفيه تعالى عن نفسه وتمدحه به محض الكذب، ولا ينفعهم دفع ذلك بما حرفوه من معنى الظلم بأنه التصرف في ملك الغير، لأنه إن أمكنهم التعسف والتحريف له عن موضعه لم يمكنهم ذلك في الكذب والعبث على أنه يصير المعنى بذلك التحريف كالتمدح بترك فعل المحال لأن كل جسم في الخارج ملك له ولا وجود لمملوك لغيره، فكيف يتمدح بترك التصرف فيما لا وجود له؟ ويقال: إن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ادعى النبوة وصدقه الله تعالى بإظهار المعجز على يديه، وقال له: قومه صدقت. وثبت أن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة وقال له قومه: صدقت. وكلا التصديقين من فعل الله تعالى فيجب أن يكونا صادقين، فما الفرق حينئذ بين محمد الصادق الأمين ومسيلمة الكذاب اللعين؟!
ولا يقال: إن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم زائداً على مسيلمة بإظهار المعجز على يديه صلى الله عليه وآله وسلم.
لأنا نقول: إن زيادة المعجز في أحدهما التصديق لهما جميعاً بالقول بمثابة انضمام القرينة إلى الإقرار، فتصير بمنزلة الفضلة أو بمنزلة شاهد ثالث بعد كمال نصاب الشهادة فقد لزم صدق الجميع وإن زاد أحدهما بالأمارة التي لا تفيد التصديق إلا إذا صدرت من عدل حكيم، ومع ذلك فهم ينفون العدل والحكمة فكانت حينئذ فضلة مستغنى عنها.(1/441)


ويقال: قد ثبت أن جميع الرسل إلى الكفار ادعوا النبوة والرسالة إلى قومهم فكان يصدقهم القليل منهم ويكذبهم الجم الغفير وكلا التصديق والتكذيب فعلا الله تعالى، فليس بأن يحكم بصدق الأنبياء نظراً إلى تصديق الأقل أولى من أن يحكم بكذبهم نظراً إلى تكذيب الأكثر، فإن اعتلوا بظهور المعجزات فقد سلف جوابه.
ويقال: قد ثبت أن الخلق بين مثبت للشرائع والأحكام والبعث واليوم الآخر والجنة والنار وبين ناف لجميع ذلك ومشرك بالله تعالى غيره وجميع ذلك عندكم بخلق الله وإرادته، فليس الحق بيد المثبت أولى من أن يكون بيد النافي، بل هذا أولى بالمصير إليه لأن الحكم للأكثرية عندكم.
ويقال: إذا كان جميع أفعال وأقوال من يخالفكم من خلق الله تعالى وفعله وبإرادته وقضائه وقدره وجب عليكم أن ترضوا منهم ذلك وتصدقونهم ولا تذمونهم ولا تحاجوهم ولا تناظروهم ولا تكابروهم وترضون منهم ما وجهوه إليكم من الذم واللعن والضرب والقتل، وإلا كنتم في جميع ذلك ممن لم يرض بقضاء الله وقدره ولله القائل:
إصْفَع المجبرَ الذي .... بِقضا السوءِ قد رَضِي
فإذا قال لم فَعَلْتَ .... فَقُلْ هكذا قُضِي(1/442)


مناظرات بين العدلية والمجبرة
حكى الإمام عز الدين عليه السلام في المعراج شرح منهاج القرشي: أن عدلياً قال لمجبر: أفكلما أقوله من الله تعالى وفعله ؟ قال نعم. قال: وهو حق صدق ؟ قال: نعم. قال: فأنا أقول: الجبر كفر والمجبر كافر. فبهت ذلك المجبر!
ومما جرى من المناظرات اجتمع عدلي ومجبر فقال العدلي: أليس بعث الله موسى وهارون إلى فرعون وقال ?فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى?{طه:44}، قال: بلى. قال: أبعثه ليغير خلق الله أو فعل فرعون ؟ إن قلت: بالأول. فكيف يقدر موسى على التغيير أو يقدر فرعون على الإجابة وما معنى قوله: ?لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى? ؟ وإن قلت: بالثاني. تركت مذهبك، هكذا نقلها القرشي، ولعل الأولى بالعبارة فكيف يحسن من موسى أن يدعو فرعون إلى التغيير.
وقال الهادي عليه السلام للنَّقَوي رئيس المجبرة عند وصوله إلى صنعاء وقد اجتمع علماؤها وتقدم رئيسهم يحيي النقوي لمناظرة الهادي عليه السلام فقال له: ممن المعاصي يا سيدنا ؟ فقال عليه السلام : ومَنِ العاصي؟ فانقطع النقوي، فلامه أصحابه وكانوا سبعة آلاف فقيه، فقال: إني لما سألت ممن المعاصي أجابني ومن العاصي؟ فإن قلت: الله كفَرتُ، وإن قلت: العبد، خرجت من مذهبي! ثم رجع أهل الصنعاء بأجمعهم إلى القول بالعدل ببركة الإمام الهادي عليه السلام ، ولم يزالوا على القول بالعدل بعد ذلك خلفاً عن سلف إلى زمننا هذا وهو سنة 1344.
قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليهما السلام: لله در يحيى عليه السلام حيث أسكت سبعة من الألوف بتسع من الحروف.
وقيل لابن الهذيل: من جمع بين الزاني والزانية ؟ فقال: أما أهل البصرة فيسمونه قواداً وأظن أهل بغداد لأنهم لا يخالفونهم. فسكت السائل.
وقيل لأبي يعقوب المجبر: من خلق المعاصي ؟ فقال: الله. فقيل: لما عذب عليها ؟ قال: لا أدري!(1/443)


وروي أنه أُتي إلى بعض الولاة بطرار أحول العينين وعنده عدلي ومجبري، فقال للمجبر: ما ترى نفعل به ؟ قال تضربه: خمسة عشر سوطاً. فقال للعدلي: ما تشير ؟ قال: تضربه ثلاثين سوطاً خمسة عشر لكونه طراراً وخمسة عشر لكونه أحول، فقال المجبري: أتضربه على الحول ولا فعل له فيه؟ قال: نعم، إذا كان الجميع من فعل الله فالحول والطرر سواء.
وقال عدلي لمجبر: أليس الله تعالى يقول: ?الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً?{البقرة:268}، فاخبرني هل الوعد أن كلاهما من الله أو أحدهما من الشيطان؟ فانقطع المجبر!
وقال عدلي لمجبر: هل تملك من أهلك ومالك شيئاً ؟ قال: لا. قال: فكل الذي تملك قد جعلته بيدي، قال: نعم. قال: اشهدوا أن نساءه طوالق وأن عبيده أحرار وماله صدقة للمساكين. فتحولت امرأته عنه، وسألت العلماء فأفتوا بوقوع جميع ذلك فصارت قضية مضحكة!
واجتمع أناس من المجبرة في موقف فقال أحدهم: إني قرأت البارحة آية من كتاب الله أن يوسف كان قدرياً وهي قوله: ?مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي?{يونس:100}، فأجاب الثاني وقال: وأنا قرأت آية أوهمتني مثل ذلك في موسى،وأجاب الثالث وقال: وأيضاً فإن موسى لم يرض أن يدعي أن يملك نفسه حتى ادعى أنه يملك معه أخاه، وكان بالقرب منهم عدلي فقال: أما ترضون بأنبياء الله يردون عليكم مذهبكم؟ فانقطعوا!(1/444)


ودخل أبو حنيفة يوماً مكتب الدَّرَسَة الصبيان فوجد فيهم الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام فأراد أن يمتحنه قبل أن يأخذ معتقده عن آبائه عليهم السلام فقال له: ممن المعاصي؟ ففكر ذلك الصبي عليه السلام يسيراً مطرقاً إلى الأرض بصره، ثم رفع رأسه وقال مخاطباً لأبي حنيفة: لا يخلو الحال من ثلاث: إما وهي من الله تعالى فهو أجل أن يعذب عبده على ما خلق فيه، أو من الله ومن العبد فالقوي أولى باللوم من الضعيف، أو من العبد فإليه يتوجه الأمر والنهي، فنظم بعضهم هذه الحادثة فقال:
لن تَخْلُ أفعالُنَا اللاتي نُذَمُّ بها .... إحدى ثلاثِ خلالٍ حين نُنْشِيْهَا
إما نُفَرِّد بارينا بصنعتِها .... فيسقطُ اللومُ عَنَّا حينَ نَأتيْهَا
أو كان يُشْرِكُنَا فيها فيلحقُهُ .... ما سوف يلحقُنَا من لائمٍ فيهَا
أو لم يكن لإلهي في جنايتِها ذَنْبٌ .... فما الذَّنْبُ إلا ذَنْبُ جانِيْهَا
سيعلمون غداً عندَ الحسابِ لَهُمْ .... أَهُمْ بَرَوْهَا أمِ الرحمن باريْهَا(1/445)

89 / 311
ع
En
A+
A-