فأولاً: حمل تلك الألفاظ من قوله: ?يؤمنون بالغيب …إلى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ?، أنها مجازات عن السبب العادي، ويريد بالسبب العادي هو الكسب الذي يزعمه على حسب ما مر من نقل مذهبه، ثم فسره بقوله: أي من صار سبباً عادياً، ومَنْ في أصل اللغة موضوعة لمن يَعْقِل، فكيف فسر بها ذلك السبب العادي الذي هو الكسب عنده؟ فحينئذ فقد فسر الكسب بالإنسان نفسه لأنه هو الذي يصلح أن يقال فيه من صار سبباً عادياً للأعمال الصالحات، ثم حكم على جميع آي القرآن بقوله: وعلى هذا القياس يعني إلى قوله: ?يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ?، فيصير داود عليه السلام وكل من أسند إليه فعل من جميع الخلق هو نفس الكسب، فاعجب لمثل هذه المقالة تصدر عن مثل هذا النحرير.
ثانياً: قوله: أو أن الإسنادات مجازات لكون العبد سبباً لهذه الأفعال. وهذا هو القسم الأول بذاته من أقسام العلاقة وهو ما كانت علاقته السببية إلا أنه خالف العبارة حيث قال في الأول: وجب حمل تلك الألفاظ على أنها مجازات عن السبب العادي، ثم فسره بقوله: أي من صار الخ، وألزمناه على ذلك أن يصير الإنسان هو نفس الكسب، ثم قال: هاهنا أو أن الإسنادات مجازات لكون العبد سبباً لهذه الأفعال. فصرح أن العبد هو نفس السبب لهذه الأفعال فكان هو نفس الكسب لأن الكسب في معتقده عبارة عن السبب الذي هو عنده بمجرى العادة بخلق الله الفعل في العبد، وهذا أعجب من الأول، وكنت عند الاطلاع على أول الكلام أظن أن الإتيان بمَنْ إنما هو تصحيف من الناقل وأن الأم حق المؤلف أتى فيها بما التي لما لا يَعقِل حيث أنها مراد بها الكسب الذي لا يَعقِل ولا يُعقَل، فلما مررت على آخر الكلام، وهو أنه جعل العبد سبباً لهذه الأفعال علمت أن ذلك ليس بتصحيف، وأنه يريد أن يفسر الكسب بالإنسان نفسه.(1/436)
ثالثاً: في تمثيله: لما جعل العلاقة السببية بقوله كما في بناء الأمير المدينة وإسناد الفعل إلى الآمر به وأن علاقته السببية لكنه هاهنا لا يصح التمثيل به، لأن إيجاد الكسب عندهم من العبد في تسبيب إيجاد الله تعالى الفعل في العبد ليس بمنزلة أمر الأمير، لأن السببية كلية يدخل تحتها أنواع وجزئيات متعددات مختلفات في نفسها فلا يصح أن يمثل بواحد من تلك الجزئيات والأنواع المختلفات إلا لما وافقها كما إذا قتل رجل آخر بأمر ثالث أسند القتل إلى الثالث، فالإسناد مجاز كما في بناء الأمير المدينة وليس هذا بمنزلة الكسب وخلق الأفعال، ولأن وزان هذه المسألة التي يريدون التوصل إليها بهذا التكلف الذي يُقضَى منه العجب، بل كان وزانه الذي يصح أن يمثل به لو كانت المسألة صحيحة أن يقال كما في زرعَ زيدٌ أرضه، فإن الزارع حقيقة هو الله تعالى، وإنما أُسند إلى زيد لأنه فَعَلَ السبب وهو الحراثة وإلقاء البذر، والموجد للزرع هو الله تعالى عند ذلك السبب كما قال تعالى: ?أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ o أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ? {الواقعة:63،64}.(1/437)
رابعاً: استثناؤه الكسب المذكور في الآيات الكريمة في قوله تعالى: ?بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ? {الجاثية:14}ونحوها، وكذلك استثناؤه الخلق والجعل، فجعل الإسناد إلى العبد في هذه الثلاثة حقيقة فيقال له: وما تريد باستثناء إسناد هذه الثلاثة من بين جميع صيغ الأفعال هل لكون العبد فاعلاً لها حقيقة؟ خرجت من مذهبك، أم لكونه اكتسبها فقط والفاعل لها حقيقة هو الله تعالى؟ لم يظهر للاستثناء ثمرة، أم تقول إن المراد اتفاق الجهة التي أسند الفعل فيها إلى العبد وهي ما أريد من الوضع اللغوي؟ فيلزم أن الله تعالى مكتسب لأنه فاعل الكسب والعبد كذلك مكتسب فهما شركة فيه، ويلزم أن الإنسان خالق لأنه أحد المستثنيات، ويلزم عدم الفرق في الجعل لأنك عددته من جملة المستثنيات التي إسنادها إلى العبد حقيقة مع أنك لا تنكر إسنادها إلى الله تعالى حقيقة فيما يتعلق بأفعال العباد، فبيّن لنا الفرق بينهما؟ ولعلك تقول: الفرق بعد ذلك أنا نسمي ما أوجده الله تعالى من الجعل خلقاً ونسمي ما أوجده العبد منه كسباً.
قلنا: هذا فرق لفظي صناعي لا يعول عليه في المجادلات والمحاورات لأنا سألناك أن تبين لنا الفرق في المعنى فأجبت لنا أنك ستسمي ما وجد من جهة الله خلقاً وما وجد من جهة العبد كسباً، وهذا ما كان ينفع إلا لو قد تميز في المعنى ما هو الذي من جهة الله فتسميه بعد ذلك خلقاً، وما هو الذي من جهة العبد فتسميه كسباً.
خامساً: فيما حكاه السيد رحمه الله عنه في آخر الكلام عن حاشية على الكشاف من قوله: إن الفعل مسند حقيقة إلى من قام به لا إلى من أوجده، فالكافر والجالس من قام به الكفر والجلوس لا من أوجدهما يقال فيه ما مر أن المقتول والمخلوق قام القتل والخلق بهما، والقاتل والخالق لمن قام الفعل به لا من أوجده فيسمى المقتول قاتلاً والمخلوق خالقاً وينكر الله تعالى أنه خالق لقوله: لا من أوجده.(1/438)
هذا وجميع ما رأيت أيها الطالب الرشاد في كلام هذا النحرير الذي لا يجد له القوم سابقاً ولا يجوزون أن يوجد مثله لاحقاً بعد أن كشفنا لك القناع عن تهافته وتناقضه واضطرابه ومخالفته القضايا الضرورية والقواعد العربية النحوية والبيانية والأوضاع اللغوية، والفروقات التحكمية والأصول الكلامية والإلزامات الجدلية والمقالات الكفرية، إذا التَفتَّ ثانياً إلى تعليله وإلى ما هو الحامل له على القول به وجدت العلة التي علل ما ارتكبه من هذه الجهالات عليلة، والمقالات التي فرعها عليه أجنبية عن البحث الذي هو بصدده دخيلة لأنه صدر الجواب على المعتزلة في تمسكهم بالدليل السمعي من فاتحة الكتاب إلى خاتمته لأن ذلك هو من قوله: ?إياك نعبد ? لا من قوله: ?الذين يؤمنون بالغيب …إلى الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ?، فاستدلال المعتزلة بأن تلك الإسنادات دليل على أن أفعال العباد منهم لا من الله تعالى، فأجاب عليهم بأنه لما ثبت بالأدلة السالفة أن الكل بقضاء الله تعالى وقدره وجب حمل تلك الألفاظ إلى آخره، وهذا من باب الاحتجاج على المعين الواضح بالمبهم الخافي لأن خلق الأفعال أو عدم خلقها من الألفاظ الواضحات الجليلة، والقضاء والقدر من الألفاظ التي تعبت الأفكار في إدراك معناها وحسرت رواحل الأسفار عن مِدْراك مبناها ولم يحظ بمعرفة ما يراد من هذين اللفظين مع اختلاف مواردهما تارة بالنسبة إلى الله تعالى، وتارة إلى العبد المؤمن وأخرى إلى المجرم وحيناً إثباتاً وآوِنَةً نفياً، وفي بعض المقامات يصلح هذا المعنى دون غيره، وفي بعضها يستويان، وفي بعضها يختلف الحال بين العالم والجاهل فصار لفظ القضاء والقدر بالنسبة إلى خلق أفعال العباد كالجنس الأعم الأبعد العالي بالنسبة إلى الفصل الأخص الأقرب السافل، وحينئذ لا يصح الاحتجاج بذلك ولا يحصل الانتجاج للمطلوب بما هنالك، لأنه يصير بمثابة قولك مشيراً إلى جسم بعيد عنك بحيث لا ترى إلا(1/439)
شبحه ولا تعلم شيئاً من صفاته المميزة له عن سائر الأشباح فتقول: هذا رجل. لأنه قد علم وثبت أنه جسم، فيقول المعترض: هب أنه جسم فمن أين لك أنه حيوان ومن أين لك أنه إنسان ثم ومن أين أنه ذكر؟ فكذلك ما سأله هذا النحرير في استدلاله على أن أفعال العباد من الله تعالى، وإخراج الآيات الصريحات من فاتحة الكتاب إلى خاتمته بأنه قد ثبت أن ذلك بقضاء الله وقدره لا يصح به الاحتجاج ولا يحصل معه الإنتاج على القواعد المقررة لدى المناطقة، لأنا نقول له هب أنها بقضاء الله وقدره؟ فإنا لا ننكر ذلك ونؤكده بأن نقول: ومن أنكر ذلك فقد كفر ولكنا لا نسلم لك أن الله تعالى خلقها وأرادها من العبد لأنه لا يلزم من وجود الأعم وهو القضاء والقدر وجود الأخص وهو الخلق والإرادة، ومَثيله لا يلزم من وجود الجسم وجود الإنسان وإنما يلزم من وجود الأخص وهو الخلق والإرادة وجود الأعم وهو القضاء والقدر ومثيله، وإنما يلزم من وجود الإنسان وجود الجسم فلا يصح إنكار وجود الجسم مهما قد وجد الإنسان، فهم الآن في منزلة أن ينازعونا في وجود الإنسان بمجرد وجود الجسم.
فإن قلت: مآل هذا الجواب التسليم بأن أفعال العباد بقضاء الله وقدره دون أن يكون بخلقه وإرادته، فما معنى القضاء والقدر اللذين وقع هذا التسليم بناءً عليه؟
قلت: سيأتي لذلك فصل مستقل في كلام المؤلف عليه السلام في المختصر.(1/440)