بارئهِم، ولعمري لَئِنْ كانت توبة عابديّ العجل بقتلهم أنفسهم ليغفر الله لهم وفرضنا أن فوق قتل النفس شيء لوجب على هؤلاء لعظم فريتهم على بارئهم التي ليست عبادة العجل إلا دونها في الجهالة وأحد مفرداتها الداخلة تحتها في الضلالة والحكم لله العلي الكبير.
الخامس: في ذكر ما يلزم المجبرة جميعاً جهميهم وأشعريهم وباقلانيهم ونجاريهم وكُلابيهم وضِراريهم.
لأنهم الجميع يجمعهم القول بخلق أفعال العباد، وإنما اختلفوا بعد ذلك في كيفية تعلق الفعل بالعبد فهو خلاف في التفريع بعد الاتفاق على الأصل الذي فارقوا فيه جميع من عداهم من أهل الإسلام وما علم ضرورة عند كافة الأنبياء والمرسلين ومن دان بدينهم ووافقهم في إيمانهم بالله تعالى وعدله وحكمته وتنزيهه وتقديسه عن فعل الكفر والظلم والفسق والغشم وسائر المعاصي والإثم، وذلك سوى ما تقدم ذكره في عدة مواضع مما مر.(1/431)
إلزام يقال لهم: قد اتفق كل مؤمن بالله عز وجل من ملك ونبي وصالح وولي وعاص له تعالى وتقي أن الله سبحانه يقال له: وله الثناء الجميل والحمد الجزيل بيده الخير ومنه الخير وهو صاحب الخير. وعلى قول المجبرة المدبرة كافة أنه مع ذلك يقال له: بيده الشر ومنه الشر وهو صاحب الشر. لأن كل شر في الخارج ليس له فاعل سواه سبحانه، ولعلك تجدهم عند هذا إن امتنعوا من إجرائه وإمراره على ألسنتهم لما فيه من الفحش والإبلاغ في سبه عز وجل لم يمتنعوا عن اعتقاده بقلوبهم لأنه لا يسعهم إنكاره كونه هو نفس مذهبهم وعين معتقدهم وإنما نلزمهم إطلاق اللفظ، ولا يقال على هذا إن الحكم للأغلب فخرج قول كل مؤمن: بيده الخير ونحوه بناءً عليه، لأنا نقول: لا نسلم لكم أن الأغلب في الخارج هو الخير فخرج ذلك الثناء عليه بل الأغلب هو الشر لأن الكفار والعصاة والظلمة والفساق أكثر وأكثر من المؤمنين الطائعين، ولأنا ألزمناهم أن يطلق عليه تعالى هذا مع هذا، ويقال لهم: أليس إن في أفعال العباد ما هو ظلم وما هو كذب وما هو سب لأنبيائه وأوليائه فلا بد من بلى، فيقال: أليس اتفق أهل اللغة ولم يخالفهم في ذلك عاقل أن من فعل الظلم سمي ظالماً، ومن فعل الكذب سمي كاذباً، ومن فعل الفسق سمي فاسقاً فلا بد من بلى، فيقال: لا فاعل لها عندكم كافة إلا الله تعالى إذاً فهذه الأسماء الذميمة والأوصاف اللئيمة هو المراد بها، فإن أطلقت على غيره فمجاز والأصل الحقيقة، ولأن أهل اللغة وسائر العقلاء إنما أطلقوها على العبد الصادرة من جهته لاعتقادهم أنه هو الفاعل لها فأما واعتقادهم صدق فهو الذي نريد، وأما كذب كذبت جميع النسب في القرآن وغيره في إسناد هذه الأفعال إلى الظلمة والكفار والكذابين والفساق وصار من سمى الظالم ظالماً والفاسق فاسقاً كذاباً في تسميتهما ظالماً وفاسقاً ونحو ذلك، فلم يبق إلا القول بأن العبد هو الفاعل للظلم والكذب والكفر والفسوق وإلا صار من سماهما أو(1/432)
نسبهما إلى الظلم والفسق ونحوهما كاذباً أو متجوزاً، ولما أُلزموا هذا الإلزام الذي لا محيص لهم عنه أرادوا دفعه بأن قالوا: الظالم من حله الظلم لا من فعله.
قلنا: وكذلك يقال: القاتل من حله القتل فينقلب المقتول قاتلاً، والخالق من حله الخلق فيصير المخلوق خالقاً ونحو ذلك، وقد حكى السيد هاشم بن يحيى هذه المقالة عن السعد ونقل عنه أنه قال في شرح المقاصد في نقل احتجاج المعتزلة من السمع: وذلك أنواع منها: إسناد الأفعال إلى العباد بكل لفظة تفيد الإيجاد من الفعل، والصنع، والكسب، والجعل، وسائر ما يعبر به على الإيجاد كما اشتمل عليه الكتاب العزيز من قوله تعالى: ?الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ … إلى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ?، قال: والجواب: أنه لما ثبت بالدلائل السالفة أن الكل بقضاء الله وقدره وجب حمل تلك الألفاظ على أنها مجازات عن السبب العادي أي من صار سبباً عادياً للأعمال الصالحات وعلى هذا القياس، أو أن الإسنادات مجازات لكون العبد سبباً لهذه الأفعال كما في بنا الأمير المدينة في غير لفظ الكسب، فإنه يصح على حقيقته، والخلق فإنه بمعنى التقدير، والجعل فإنه بمعنى التصيير وهو لا يلتزم إيجاد أمر محقق انتهى.(1/433)
ثم رد عليه السيد رحمه الله تعالى بقوله: ولا يخفى ما في الجواب من التعسف واطراد حمل إسناد الكتاب العزيز من أوله إلى آخره على المجاز وتخصيص لفظ الكسب يحمله على الحقيقة مع أن مفهومه مفهوم غيره من تلك الألفاظ، وأما معناه الاصطلاحي عندهم فلم يعقل فضلاً من أن يكون معناه اللغوي، وقد ترقى في حاشية الكشاف وغيرها إلى أن الفعل مسند حقيقة إلى من قام به لا إلى من أوجده، والكافر والجالس من قام به الكفر والجلوس لا من أوجدهما كما تقدم نقله عنه في مسألة: والله تعالى لا يفعل القبيح. ثم قال السيد رحمه الله تعالى ما لفظه: إذا عرفت هذا ظهر لك ضعف جعل نسبة الفعل إلى العبد مجازاً مختصاً بالجهمية وأنه جار على قواعد الأشعرية بل ترقَّى محققهم إلى ما سمعت انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
قلت: والعجب كل العجب من السعد وأمثاله من المحققين في علم العربية النحو والبيان وسائر علوم الآلة كيف يضيعونها عند الحاجة لإعمالها فيما وضعت له، وكيف يسوغون إهمالها عند الافتقار إليها لتقريب مناله، فإن أهل النحو قاطبة على تجمعهم من عدلي وجبري وبدوي وحضري متفقون على أن الفاعل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: فاعل في اللفظ والمعنى كقام زيد، وفاعل في اللفظ دون المعنى كمرض عمرو، وفاعل في المعنى دون اللفظ نحو: ?وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا?{الفتح:28}، وأهل البيان اتفقوا مع كونهم بين مجبري وعدلي على أن الإسناد ينقسم إلى:
حقيقي: وهو إسناد الفعل لما هو له عند المتكلم وهو الفاعل إذا كان الفعل غير مغير الصيغة كسرق المتاع.
وإلى مجازي: وهو إسناد الفعل إلى سائر ملابسات الفعل من الآمر به أو المصدر أو الزمان أو المكان أو السبب أو الآلة.(1/434)
ثم إذا انتقل هؤلاء المحققون في علوم الآلة المدققون لها بلا اشتباه عليهم لشيء منها ولا جهالة، والمتفقون في إحاطتهم بها كإحاطة الهالة إلى علم المعقول الذي يتوصل به إلى معرفة العدل والتوحيد وغيرهما من أصول الدين الذي ما مَثَلُ سائر العلوم مع فقده إلا كالجسد بلا روح، تركوا تلك العلوم الآليَّة وراء ظهورهم كأنهم لا يعقلون، ألا ترى السعد في شرحه للتلخيص في علم البيان جعل إسناد كل فعل إلى فاعله عند المتكلم حقيقياً ثم هاهنا في كلامه الذي مرّ ترك هذه القاعدة وجعل جميع الإسنادات في أفعال العباد من قوله تعالى: ? إِيَّاكَ نَعْبُدُ …إلى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ?، من الإسناد المجازي مع أنه لم يعد في كتبه البيانية والنحوية الإسناد المجازي إلا فيما أسند إلى الآمر أو المصدر أو نحوهما مما ذكره،وقد كانت هذه الإسنادات التي من:? إِيَّاكَ نَعْبُدُ…إلى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ?، مما أسند إلى غير هذه الملابسات، فيجب أن يكون الإسناد في ? يؤمنون بالغيب … إلى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ? من الإسناد إلى الفاعل عنده فيكون من الإسناد الحقيقي ولا يكون من المجازي في شيء، إذ لا يستقيم أن يكون داود عليه السلام في قوله تعالى: ?وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ?{البقرة:251}، آمراً بالقتل ولا مصدراً له ولا ظرفاً ولا زماناً ولا سبباً ولا آلة ولا غير ذلك من الملابسات سوى أنه فاعل عند المتكلم بذلك الذي هو أصدق القائلين، وانظر إلى اضطراب كلامه في العلاقة التي لا يصح المجاز إلا معها.(1/435)