والحجة لنا على الجهمية في إثباتها أنها لو لم يخلقها الله في العباد مع أنهم مكلفون لما صح تكليفهم أصلاً إذ لا يصح توجيه التكليف إلا إلى القادر، وعلى الأشعرية: أنها لو لم تكن صالحة للضدين لما صح نهي المؤمن عن الكفر وأمر الكافر بالإيمان لأن كلاً منهما لا تصلح قدرته لغير ما هو فيه، ولو لم تكن متقدمة لما صح طلب الفعل والتكليف به قبل حصوله ولو كانت موجبة للفعل لما صح الأمر به والنهي عنه، لأن القدرة إذا أوجبت مقدورها أغنت الآمر عن الأمر بمقدورها لحصوله بها لا محالة، ولا ثمرة للنهي عن القبيح مع خلق القدرة الموجبة له لأنه موجود أو مستحيل إن لم توجد فيه القدرة.(1/426)
ويدل على إثبات القدرة وثبوت هذه الثلاثة الأحكام لها قوله تعالى: ?يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونo خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ? {القلم:42،43}، فأخبر أنهم كانوا يدعون إلى السجود وهم مستطيعون والحال أنه لم يحصل منهم، فدل على وجود القدرة مع عدم المقدور، وعلى أنها صالحة له ولضده وهو الترك والاستكبار عليه وأنها متقدمة غير موجبة له وإلا للزم حصوله، وكذلك قوله تعالى: ?لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ? {التوبة:42}، ووجه الاستدلال بها: أنه تعالى أخبر أنهم لكاذبون لأن المرجع بهذا التكذيب إلى قوله: ?لَوْ اسْتَطَعْنَا? فلزم أنهم مستطيعون لأنّ ?لو? يصير المثبت بعدها منفياً وذلك مقتضى قولهم وقد كذبهم الله فيه، ويصير التقدير: بل هم مستطيعون، فلزم أن القدرة موجودة ولم يحصل الخروج، فدل على أنها غير موجبة له وصالحة له ولضده ومتقدمة عليه، ويصح أن يرجع إلى قوله: ?لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ? ليكون المعنى بل لا يخرجوا مع كونهم مستطيعين وإنما يكذبون بذلك وينافقون، فلزم ما ذكر من الأحكام الثلاثة المذكورة قوله عليه السلام [ وهداهم النَجدين، ] يريد أن الله سبحانه وتعالى وضح لهم الطريقين طريقة الإيمان ومآلها وطريقة الكفر ومآلها ليتبعوا هذه ويجنبوا هذه كما قال تعالى: ?وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ?{البلد:10}، [ ومَكَّنَهم في الحالَين، ] مكن العاصي من الطاعات والعصيان، ومكن الطائع من العصيان والطاعات، فكل بعد ذلك يختار لنفسه إما شاكراً وإما كفورا كما قال تعالى: ?فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ?{الكهف:29}، وهذا الحكم الثالث من أحكام الاستطاعة المذكورة وهو أنها صالحة للضدين، ويؤيده أنها لو لم تصلح(1/427)
للضدين لأمكن أحدنا أن يمشي يمنة أميالاً وفراسخ ولا يمكن أن يمشي يسرة شبراً واحداً، لأن حركة يمنة ضد حركة يسرة والضرورة تدفعه، وقوله: في الحالين، يعني حال فعلهم الطاعات وحال فعلهم المعاصي متمكنون من هذا وهذا [ لم يمنعهم عن فعل المعاصي جَبْراً، ولا قَهَر على فعل الطاعات قهراً، ] لمنافات ذلك مقتضى التكليف، فمن ترك منهم المعاصي ولم يتلبس بها لم يكن ذلك لمنعٍ كان منه تعالى على سبيل الجبر والإحالة بينه وبين ما تركه من المعاصي، ومن فعل منهم الطاعات لم يكن ذلك لقسرٍ كان منه تعالى على سبيل الجبر والإيقاع في الفعل وإلا لما كان للمؤمن فضل على الكافر أصلاً، بل لا يصح أن يكون هذا مؤمن وهذا كافر، ولما كان من شُبَه المجبرة في خلق الأفعال وإرادتها قولهم: لو أراد الله الإيمان والطاعات من الكافر فكان تعالى متمنياً. والتمني على الله تعالى لا يجوز لاستلزامه العجز، أشار عليه السلام إلى هذه الشبهة وجوابها وهو أنه لا يسلم أن يكون ذلك تمنياً إلا لو لم يكن الله تعالى قادراً على إجبارهم وإكراههم على الطاعات ومنعهم وصرفهم عن المعاصي، وهذا لا يسلم لأنه [ لو شاء ربك لفعل ذلك كما قال عز وجل: ?وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا?{يونس:99} يريد مشيئة الإجبار ] لهم على الفعل والترك [ لا مشيئة الاختيار، ] منهم لفعل الطاعات وترك المعاصي ويؤيد ذلك تمام الآية المذكورة خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من صلح للخطاب: ?أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ?{يونس:99}، أي ليس كذلك لأنك لا تقدر أن تكرههم كما يقدر الله أن يكرههم ومثل هذه الآية قوله تعالى: ?وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا?{السجدة:13}، ذلك و? لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا?{الرعد:31}، وأمثالها من آيات المشيئة الدالة على أنه عز وجل قادر على إجبارهم(1/428)
وإكراههم، وجعلها أهل الجبر شبهاً يتمسكون بها على اعتقادهم الفري ومقالهم الكفري إن الله تعالى أجبرهم على الكفر وأراده منهم وأجبر المؤمنين على الإيمان، وذلك معلوم البطلان [ لأنه لو أكرههم ] على ذلك [ لم يكونوا مكلفين، ] لأن شرط التكليف التمكين من الفعل والترك ?لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ?{الأنفال:37}، وليكون الجزاء ثواباً أو عقاباً على مقتضى الاستحقاق عن الانقياد والامتثال لفعل الطاعة مع القدرة على تركها وعلى فعل المعصية مع القدرة على تركها [ و ] إلا [ لبطل الغرض ببعثه الرسل. ] إذ يكون إرسالهم والحال أن الخلق مجبرين ومكرهين على الأفعال المأمورين بفعلها أو تركها كإرسال السيد إلى عبده الذي قد قيده بالحديد المثقل عن المشي وشَدَّ يديه وعصب على عينيه، ثم أرسل إليه رسولاً يأمره بقراءة كتاب والعمل بما فيه من الأعمال المفتقرة من العبد إلى المشي والبطش والمزاولة باليدين، فإنه كما يعلم بالضرورة البديهية أن ذلك مستقبح من السيد لدلالته على الجهل والجور المفرطين واستلزامه السخرية بالرسول والمرسل إليه ودلالته على السفاهة الكلية، كذلك يكون الحال لو أجبر الله الخلق على أفعالهم ثم أرسل الرسل بالكتب والأمر والنهي عما خلقه فيهم، تعالى الله عما يقوله الجاهلون وسبحانه عما يزعمه المبطلون.
وهذا الإلزام من أعظم الإلزامات التي ألزم أصحابنا أهل الجبر ولا يجدون عنه محيصاً، وإن أرادوا التخلص عنه وكابروا الضرورة وزعموا أن ذلك يصح منه تعالى لأنه تعالى غير منهي وأن ذلك الإرسال والأمر والنهي باعتبار الكسب الذي توهموه والكذب الذي يزعموه فإن ذلك غير مخلص، لأنه تعالى وإن كان غير منهي فأقل الأحوال أن ينزل بمنزلة العاقل العادل لا بمنزلة السفيه الجائر الجاهل وطلب كسبهم الأفعال قد أغنى عنه خلق الفعل وإيجاده فيهم كسبوه أم لم يكسبوه.(1/429)
إلزام لأهل الكسب لا يجدون عنه انفصالاً يقال: إذا كان الناس المخالفون لكم بين قائل بأن أفعال العباد منهم وينكركم كونها مخلوقة من الله فيهم وهم كافة العدلية، وبين قائل بإنكار الكسب ويوافقكم في خلق الفعل وهم سائر الجبرية فما الطريق لكم إلى إثبات القول بالكسب وإبطال كِلَي المذهبين المذكورين من خصومكم، لأنكم إن تمسكتم لإثباته بتوقف أفعالهم على اختياراتهم وصحة الأمر والنهي والثواب والعقاب اعترضكم العدلي بأن قال: هذا دليل أن أفعال العباد منهم لا من الله تعالى، وإن تمسكتم بقوله تعالى: ?خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ?{غافر:62}،?وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ?ؤميؤؤ {الصافات:96}، اعترضكم الجهمي وقال: هذا يا أخي الجبري دليلنا على خلق جميع ما يوجد فينا ويحدث من أفعالنا من كسب أو غيره ولكني أنكركم الكسب فبم تحتجون عليّ ؟ فإن رجعوا في مجادلته إلى ما أبطله عليهم به العدلي من موقف الاختيار والأمر والنهي ونحو ذلك قال لهم: هذا التخصيص للآيتين المذكورتين وإن كان تخصيص العموم جائزاً إجماعاً فليس بأن يحمل على الكسب بأولى من أن يحمل على نفس الأفعال، فإما أن نساعد العدلية على النزول والمصير إليه ونترك القول بخلق الأفعال ليصح لنا القول بالثواب والعقاب والمدح والذم المقتضى عن الضرورة بالفرق بين الاختياري والاضطراري، وإما أن نبقى على تلك الضرورة ونترك العمل بوجوب التخصيص فنبقي الآيتين على ظاهرهما من العموم من دون تخصيص لكسب ولا غيره، فاتركوا القول بهذا الكسب ودَعُوا التعويل على هذا الكذب ليصح لكم الجمود على ظاهر الآيات الدالة على مذهبنا نحن وأنتم في خلق الأفعال، وهذا إلزام ليس للأشعري عنه مفر وهو قاض عليه وعلى الجهمي أنهما ممن تعاما عن الحق واستنفرا وأنهما معاً ممن تطاول على العدلي وتكبر، بل على الله تعالى حيث لم ينصفوه بنسبة ما فعلوه من المعاصي والطغيان إليهم ويُلْزموا ذلك نفوسهم ويتوبوا إلى(1/430)