ثانياً: أنكم قد أقررتم أنه عارض ذلك الفرق الضروري، فأي صحة لما عارض الضرورة، إذاً لصحت أقوال السُّوْفَسْطَائِيَّة المعارضة للضروريات.
ثالثاً: أنكم علقتم ذلك الفرق الضروري بالاختيار وعدمه بين حركة الصاعد وحركة الساقط، وعلقتم المدح والذم والثواب والعقاب بالاختياري دون الاضطراري، وهذا يدل على أن الفعل الاختياري من العبد لا من الله تعالى بالخلق، إذ لو كان بخلقه تعالى لما صح ذلك الفرق الضروري، ولما صح تعلق المدح والذم والثواب والعقاب به لأن كل أفعال الله تعالى لا يصح أن يضاف إلى العبد أو يعلق به شيء من ذلك.
رابعاً: أنكم قلتم: مع استقلال قدرة الرب تعالى به -أي بالفعل-، فلئن كانت قدرة الرب تعالى مستقلة بالفعل لم يبق للكسب معنى يشار إليه ولا شيء يعول عليه سوى دعوى ما ليس له في الخارج وجود سميتموه كسباً.
خامساً: أنكم قلتم ولا يضرنا عدم معرفة ذلك الأمر على جهة التعيين والتفصيل. فنقول: إذا لم يعرف لكم ذلك الأمر على جهة التعيين كان إذاً ملتبساً بجميع ما عداه من سائر الموجودات إن زعمتم وجوده، أو من سائر المعلومات إن اشتبه عليكم الأمر بين وجوده وعدمه، لأن ما لم يعرف على التعيين والتفصيل كان ملتبساً بجميع ما عداه من الموجودات أو المعلومات، فهذا ما يقال لهم فيما استدلوا به على ثبوت الكسب على الإجمال.
وأما ما يقال لهم في إثباته من حيث هو فيقال: وكيف يصح لكم الاعتماد في أصل من أصول الدين المهمة على ما أقررتم أنه غير معلوم لكم على التعيين والتفصيل؟ وكيف تذمون من أنكر ثبوت ما لا تعرفونه بإقراركم؟ وكيف تُبعث الرسل وتُنزل الكتب من الله تعالى لطلب ما ليس بمعين ولا معلوم للخلق المكلفين على التفصيل؟ وهل هذا إلا كالتكليف بالمجهول المتوغل في الجهالة إلى حد التعذر والاستحالة؟.(1/421)


ويقال لهم أيضاً: إذا خلق الله الفعل في العبد فهل يقدر العبد أن لا يكتسبه أم لا ؟ إن قلتم: نعم. كان الفعل موجوداً بالنسبة إلى أن الله خلقه معدوماً بالنسبة إلى أن العبد لا يكتسبه وذلك محال، وإن قلتم: لا. كان إذاً مُجْبراً على الكسب وكذلك في صورة العكس إذا لم يخلق الله الفعل في العبد، فهل يقدر العبد على أن يكتسبه أم لا ؟ إن قلتم: نعم. كان الفعل معدوماً بالنسبة إلى أن الله لم يخلقه موجوداً بالنسبة إلى أن العبد اكتسبه وذلك هو المحال بعينه، وإن قلتم: لا. كان العبد إذاً ممنوعاً من الفعل مُجْبراً على تركه والضرورة التي قد أقررتم بها تدفعه.
ويقال لهم أيضاً: الكسب شيء خلقه الله أو شيء لم يخلقه الله ؟ إن قلتم: بالأول. كان جبراً مضاعفاً من حيث كان جبراً على الفعل وجبراً على الكسب، وإن قلتم: شيئاً لم يخلقه الله. فقد أثبتم أن العبد فاعلاً لشيء لم يخلقه الله، فارضوا منا في جميع أفعال العبد بذلك.(1/422)


ويقال لهم أيضاً: إذا كان الكفر من الإلحاد والتعطيل والشرك بالله تعالى وتكذيب أنبيائه المرسلة وإنكار كتبه المنزلة والتكذيب باليوم الآخر، وكذلك الفسق على جميع أنواعه من الزنا وشرب الخمر وقتل النفس المحرمة وقذف المحصنات وقطع الصلاة والصوم والحج وغير ذلك خلقاً لله كسباً للعبد، فهل حَسُنَ ذلك كله لأجل الخلق أم قبح لأجل الكسب والنهي ؟ وأي الجهتين أولى بأن يتبعه الحكم بالحسن أو القبح وأولوية الوقوع أو العدم هل جهة الخلق؟ كان إذاً إيجاد الكفر والفسق على جميع أنواعهما وأصنافهما حسناً وأولى بالوقوع أم جهة الكسب والنهي، فما تقولون إذا اكتسب العبد ما ذكر من أنواع الكفر والفسق مع ورود النهي عنها المعلوم بضرورة الدين أيهما أولى بالحكم والوقوع هل الكسب لموافقته لخلق الله ذلك الفعل؟ كان كسب العبد لما ذكر من أنواع الكفر والفسق حسناً وأولى بالوقوع، وفي ذلك رد ما جاءت به الرسل، أم الترك امتثالاً للنهي؟ خرجتم عن مذهبكم، فإن لم تخرجوا عنه فليس إلا عناداً أو جدالاً بالباطل.(1/423)


لكنا نتم الكلام والمذاكرة معكم بناءً على إصراركم القبيح ومذهبكم الفضيح ونقول: إذا كان ترك العبد كسب الكفر والفسق أولى وقد وقع الكفر والفسق على جميع أنواعهما بما لا مزيد عليه وكل ذلك بفعل الله وخلقه وإرادته، فكيف تجعلون ترك العبد ومخالفة الله ومعارضته في مشيئته وقدره وقضائه هو الأولى بالوقوع والأحسن؟ فأنتم حينئذ لم تؤمنوا بالقضاء والقدر خيره وشره، ثم ما جوابكم إذا اعتذر أي كافر أو فاسق بأني كنت أريد أن أكتسب الإيمان والطاعات وأترك كسب الكفر والمعاصي ولكن غلبتني جهة خلق الله فِيَّ ذلك الكفر أو الفسق ولم أتمكن بجهة كسبي من فعل الإيمان والطاعات ولا من ترك الكفر والمعاصي أكنتم تصدقونه ؟ فاعذروه عن كفره وفسقه لأنه أجاب عليكم بعين مذهبكم ورُدّوا اللائمة على من أوقعه في ما كان إنكاركم عليه وعتابكم، أم تكذبونه؟ فكيف وهو لم يَعْدُ مذهبكم قيد شبر ولا حاد عنه قدر ظفر، قد حكى الله عن موافقيكم في المعنى: ?سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا?{الأنعام:148}، ثم بين بطلان قولكم وقولهم بقوله: ? كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ?{الأنعام:148}، لقد صاح إبليس اللعين في أنديتكم بهذه المقالة فاستمعتموه، وصدق فيكم ظنه فاتبعتموه، واتخذكم أعواناً على دعائه الخلق إلى الكفر والفسوق والعصيان فعاونتموه، وجعلكم إخواناً له لموافقتكم قوله: ?رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ? {الحجر:39}، فقررتموه?فبعداً لقوم لا يؤمنون?،:?ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون?.(1/424)


ولنقبض الكلام ياهمام في هذا المقام، فالإكثار من التكلم عند الأصم لا يزيده إلا صَمَمَاً، واستجواب الأبكم لا يستزيده إلا بَكَما، وإنما بسطت بعض البسط في شأن الكسب لما رأيت شدة ولع القوم به مع أنه سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ولقد ذاكرت فيه كثيراً من مشيختهم وطلبتهم فلم أجد عندهم مما يدل على علمهم به غير التسمية، وما وجدت له ثمرة لديهم سوى تمشية القول بالجبر والتعمية، وإذا أوردتُ عليهم شيئاً مما ذكرت في هذا الموضع أو نحوه لم أجدهم إلا بين منقطع اللسان تعرف في وجهه المنكر وبين ناقم على الجهمية والمعتزلة في عدم القول به ولو لم يعقل له معناه ويتقرر، يذم القدرية وهو موافقهم في جميع عقائدهم الفرية، وينقم على العترة الزكية عدم لهجهم بالقدر معه في كل قضية، وإذا تلوت عليهم آية من كتاب الله لم يرفع إليها طرفاً ولا رأساً، وإذا حكيت له حديثاً أو قولاً عن عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ير في مخالفته بأساً ?يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها?{الجاثية:8}،وينظر الأدلة القاطعة تقام عليه ثم يعرض عنها كأن قد أوحي إليه أن لا يَتَّبِعها ?فإن لم يستجيبوا لك فاعلم إنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدىً من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين?{القصص:50}.
الرابع: أن الله تعالى خلق للعباد قدرة يتمكنون بها من الأفعال فعلاً وتركاً ولها عندنا ثلاثة أحكام:
أحدها: أنه تعالى [ أقدرهم على فعل الضِّدَّين، ] الإيمان والكفر.
وثانيها: أنها متقدمة على الفعل.
وثالثها: أنها غير موجبة للفعل.
وقد خالف في ذلك المجبرة، أما الجهمية فأنكروا أن الله تعالى خلق للعباد قدرة، وأما الأشعرية فخالفوا في أحكامها الثلاثة فأنكروا كونها صالحة للضدين وأنها متقدمة وقالوا: إنها موجبة للفعل وهذه الأفعال الثلاثة متلازمة ولازمة القول بالعدل.(1/425)

85 / 311
ع
En
A+
A-