قلت: ولأنه لم يكن معلوم لنا من هؤلاء بإسناد الفعل الصادر منهما إليه من فاعل آخر شار إليه، لأنه لا يخلو إما أن يكون من فعلهما أو فعل غيرهما، والغير إما الله أو أحد الجن أو أحد الملائكة أو إنسان آخر، وأيَّمَّا قيل به من الثلاثة التقادير الأخيرة لزم دليله وإلا كان إثبات ما لا طريق له،ومن المعلوم أنه لا دليل على أيها، فلم يبق إلا أنه من فعلهما لاختصاصه بهما، ولأنه يشتق لهما اسم فاعل فيقال فيهما متحرك أو ساكن ونحو ذلك.
الثالث: أن الأمر من الله تعالى للعباد بالطاعات ونهيهم عن المعاصي لا يبلغ بحالهم إلى الإلجاء والقسر على الفعل المطلوب منهم أن يفعلوه ولا على الترك للفعل المطلوب أن يتركوه [ ولكنه أمر تخييراً ونهى تحذيراً ] ?فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ?{الكهف:29}، وكما قال تعالى: ?اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌا.?{فصلت:40}، ولما رأت المجبرة هذا الفرق الضروري أرادوا أن ينفصلوا عنه بما لا محصول له ولا يعقل، فقالوا: بالكسب، وأن العبد مختار لكسبها، وأن الأمر والنهي ونحوهما من المدح والذم والثواب والعقاب تتعلق به.
وسبيلنا معهم في هذا الموضع أن نطلب منهم حَدَّهُ حتى يتوجه الرد عليهم على مقتضى ما يحدونه، ثم نتبعه بإبطال الحدود التي قالوها فيه، ثم نبين أنه لا يُعقل وأنه لا معنى للتشبث به.(1/416)
أما حَدَّهُ: فاعلم أن العدلية لم يزالوا في كل عصر يطلبونهم يحدونه حداً صحيحاً واضحاً فلم يأتوا له بحد صحيح ولا برهان صريح، وإنما اضطربت أقوالهم فيه اضطراب الأرشية في البئر واختلفت اختلاف الماشية في السير، فقال الأشعري: هو وجود الفعل بقدرة الله تعالى مقارناً لقدرة العبد ولا تأثير لقدرة العبد فيه. وقال الباقلاني: المرجع بالكسب إلى صفة للفعل وهي كونه طاعة أو معصية فوجود السجدة مثلاً من الله تعالى وكونه طاعة أو معصية هو من العبد. وقال بعضهم: هو ما وقع بقدرةٍ محدثة. وقال بعضهم: الكسب هو ما حله مع القدرة عليه. وقال بعضهم وهو الرازي: الكسب وجود الفعل من الله عند القدرة والداعي من العبد. وقال السعد: إنه تعيين طرفي الفعل وصرف العبد قدرته وإرادته إليه والله فاعل الفعل لمجرى العادة عند صرف العبد قدرته وإرادته إليه. وقال ابن الهمام: هو العزم والتصميم وخلق الله الفعل عند ذلك بمجرى العادة،إلى غير ذلك من الأقوال المتلجلجة والآراء المختلجة.
ويُبطل قول الأشعري أن يقال له: إذا كان الفعل عندكم من الله وهو بقدرة الله فما ثمرة قدرة العبد عنده وجعلها مقارنة ولا تأثير لها، فإذاً لا ثمرة في إثبات قدرة العبد أو نفيها فقد صار الفعل جميعه من الله ولا يعلم للكسب حينئذ معنى ينصرف إليه ويعول عليه.(1/417)
ويُبطل قول الباقلاني أن يقال له: وما هو الأمر الذي صير الفعل مع كونه من الله تعالى طاعة أو معصية، فإن فسرته بنفس الكسب فعنه وقع السؤال فكأنك تقول الكسب هو كون الفعل طاعة أو معصية، وكونه طاعة أو معصية هو الكسب فصار دوراً ظاهراً، إذ لا يصير الفعل طاعة أو معصية حتى يصير كسباً ولا يصير كسباً حتى يصير طاعة أو معصية مع أن المعلوم أن كون الفعل طاعة أو معصية من توابع وجوده فموجده هو موجد الطاعة أو المعصية فقد رجع الكسب حينئذ على هذا، وعلى قول الأشعري: إلى فعل الله تعالى، لأن الأشعري فسره بأنه وجود الفعل بقدرة الله مقارناً لقدرة العبد ولا تأثير لها فيه والوجود عنده هو لله، وأكده بقوله: ولا تأثير لقدرة العبد فيه.
ويبطل قول من قال: هو ما وقع بقدرة محدثة،وقول من قال: هو ما حله مع القدرة عليه،أن الذي وقع والذي حله هو نفس الفعل ولا شيء يشار إليه، ويقال له: وقع أو حله غير الفعل، فإذا كان نفس الفعل من الله كان الكسب من الله تعالى لا محالة.
ويبطل قول الرازي:أنه وجود الفعل من الله والداعي من العبد أن يقال له: وما تريد بهذا هل المقصود أنه يطلق على إيجاد الفعل من الله تارة وعلى الداعي من العبد أخرى؟ فهو إقرار بأن الكسب من الله لنفس الفعل غير أنك تقول: وثمة كسب آخر للعبد وهو الداعي، أو المراد أنه اسم مركب من المجموع، فكأنك تقول الكسب من الله ومن العبد.
ويُبطل قول السعد: أن تعيين طرفي الفعل لا يصح إلا من فاعل الفعل وصرف العبد وقدرته وإرادته إليه، كلام لا معنى له:
أولاً: أنه لا ثمرة لصرف العبد قدرته وإرادته إليه مع أنه ليس من فعله، إذ يصير بمثابة صرف قدرته وإرادته إلى فعل الغير من سائر الخلق أو إلى فعل الله تعالى اللون والطول والقصر فيه.(1/418)
ثانياً: أن ذلك الصرف من جملة الأفعال، فإما أن يكون بخلق الله وكسب العبد عاد السؤال وتسلسل، وإما ينفرد به العبد خرج من مذهبه، أو ينفرد به الله تعالى فأي فَرَجٍ له من القول به.
ثالثاً: أن القدرة عندهم موجبة، فكيف يصح من العبد تعيينها وصرفها إلى أحد طرفي الفعل؟
رابعاً: أن القدرة والإرادة مخلوقتان لله تعالى القدرة اتفاقاً والإرادة على زعمه، فكيف صح من العبد صرفها إلى ما عينه من طرفي الفعل وكأنه على هذه المثابة عليه أن يعين ويختار وعلى الله أن يتبع العبد ويفعل ما يختار فجاء بمعكوس الآية الكريمة: ? وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ? {القصص:68}.
ويبطل قول ابن الهمام: أنه فسره بالعزم والتصميم، وخلق الله الفعل عند ذلك بمجرى العادة، فكان اسماً مجموعاً من الأمرين ومركباً من الجهتين، وقد جعل سيدي هاشم بن يحيى الشامي رحمه الله كلام ابن الهمام وكلام السعد واحداً في تعليقه على حاشية الجلال على شرح القلائد قال: وأورد عليه أنه اعتزال في الإرادة وجبر في الفعل إن كان الإثبات للاختيار على جهة الاستقلال، وإن اعتبروا في الاختيار الخلق والكسب لم يعقل الكسب فيه ولزم الجبر فيه كأصل الفعل أو التسلسل، ثم نَقَل قولاً غريباً في تفسير الكسب عجيباً في نفس الأمر فقال ما لفظه: وقيل: إن الكسب لا شيء غير توهم العبد أن لقدرته واختياره أثراً في وجود الفعل، فلما كان حال الفعل كالمعتقد أن الفعل له عومل معاملة المختار، قال: وهذا القول رأيته لصاحب النبراس وهو ساقط وقد لزم صاحبه الإقرار بما ذهب إليه أبو الحسين من أن كون أفعال العباد منهم بالضرورة، وإنما يسمى ذلك الضرورة وهماً تعامياً عن الحق انتهى.(1/419)
قلت: فقد رأيت أيها الطالب الرشاد جميع هذه الأقوال في تفسير الكسب على اختلاف العبارات رجوعها الجميع إلى أن الكسب من فعل الله تعالى بعضها بالصراحة وبعضها باللزوم الذي لا مخلص عنه، فإن جروا على ذلك كان كل من قال بالكسب زاد على الجهمي بإثبات الجبر من جهتين: من جهة الخلق، ومن جهة الكسب، فيكون جبراً مضاعفاً، وإن لم يجروا عليه كان الكسب غير معقول لا محالة، وعلى كلا الحالين يكون كل أشعري ونحوه جُهْمِيِّين وقَدَرِيِّين ومجُبرين ومُفتريين، قالوا: الدليل على إثبات الكسب: أنه لما صحت أدلة أن الفعل بخلق الله تعالى وعارض ذلك الفرق الضروري وهو الفرق بين حركة الصاعد وحركة الساقط وترتب المدح والذم على الاختياري دون غيره لم يكن بد من أمر يحصل به الفرق بين المختار فيه وبين المضطر إليه يكون تعلق الفعل بالعبد باعتباره مع استقلال قدرة الرب تعالى به، ولا يضرنا عدم معرفة ذلك الأمر على جهة التعيين والتفصيل حكى ذلك عنهم السيد هاشم رحمه الله، وأجاب عليهم بما معناه: بأن العبد لا يخلو إما أن يخرج بقدرته من العدم إلى الوجود ما يصح أن يتعلق به الأمر والنهي ويقع باعتباره المدح والذم ويترتب عليه الثواب والعقاب تسمونه كسباً ولا يخرج بقدرته شيئاً كذلك، إن كان الأول لم يبقَ بيننا وبينكم نزاع فيه وانتقلنا معكم إلى الكلام على ما أثبتم أنه بخلق الله وسميتموه خلقاً وطلب الفرق بينه وبين ما أثبتم أنه بفعل العبد وسميتموه كسباً، وإن كان الثاني فهذا هو الجبر الذي فررتم منه وأقررتم بأنه خلاف ما تقضي به الضرورة، ولم يبق إلا التعجب من إطباق العقلاء الأذكياء على ما لا يعقل من غير حامل عند إمعان النظر. انتهى.
قلت: ويقال لهم إن ما ذكرتموه أول ما فيه: أنه مبني على أصل غير مسلم ولا قام عليه دليل، بل قام الدليل على خلافه وهو قولكم: لما صحت أدلة أن الفعل بخلق الله تعالى.(1/420)