فإجماع العترة عليهم السلام منعقد على ذلك ولا ينقل عن أحد منهم القول بخلق الأفعال، يدل على ذلك أقوالهم ومصنفاتهم واحتججاتهم على أعدائهم في تحرير دعواتهم وبثها في الأقطار التي نشؤوا فيها من يمن وغيره كجيلان وديلمان وغيرهما، قال الأمير المؤلف عليه السلام ما لفظه: فأما أهل البيت الطاهرين فلولا خشية التطويل لأتيت بهم إماماً إماماً من لدن علي عليه السلام إلى زمني هذا وهو سنة 933، وإذا كان من أبنائهم من نشأ في ديار المجبرة في هذه الأعصار المتأخرة من يخالفهم في ذلك فلا اعتداد به، لأنه محجوج بإجماع من قبله منهم على أنك لا تجد هذا الذي خالفهم إلا وهو غير منتمي إليهم ولا معتزي إلى أئمتهم، ولا ينقل ذلك عن أكابر أو أصاغر من سلف منهم، بل يتبجح ويفتخر بانتسابه إلى الأشعرية ودعوى أنه من أهل السنة والجماعة: قد أنكر الوصيّ عليه السلام وصايته، وجحد كل إمام من أبنائه مرتبته، ووالى ابن سفيان وفئتة الباغية، وأنكر على من يتبرأ من ذلك الطاغية، وصحح إمامة من بغى على كل إمام من العترة الزكية منذ قام أول من اقتفى منهج الخمسة المعصومين فرعهم الولي ابن الولي أمير المؤمنين زيد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام إلى زمنك الذي أنت فيه، اللهم إلا أن تلجىء الضرورة عند أن يمن الله بنصرة الإمام فيغلب على الجهة التي فيها ذلك الأشعري إلى إظهار القول بإمامته أظهر القول بها وبمباينة عدو الإمام والله أعلم بسريرته مع كونه مجانباً مذهبه وبمعزل عن عقيدته وطريقته يلتقط المعايب من سيرته ويتناسى المحاسن من سجيته قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ولا يُنَبِئُوك مِثْلُ خبير، فثبت بجميع ما ذكرنا: أن أفعال العباد منهم لا من الله تعالى.
وبقي فروع وأطراف تتعلق بالمسألة ينبغي معرفتها وتقرير الكلام على أدلتها.(1/411)
الأول: قال أكثر العدلية: والمتولد من فعل العبد فَعَلَهُ، وقد خالف في ذلك الجاحظ فنقل عنه الأصحاب: أنه لا فعل للعبد إلا الإرادة وما عداها متولد بطبع المحل، هكذا أطلقوا عنه الرواية ولعل مراده في نفس المتولد لا في المباشرة كالقيام والقعود ونحوهما، فلا يتأتى عنه إنكار كون العبد فاعلاً لذلك لأنه معدود من العدلية المعتزلة، وإن كان ظاهر إطلاق الروايات والرد عليه بالاحتجاجات من الأصحاب يوهم ذلك وهو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الليثي البصري، قال ابن خلكان صاحب التصانيف في كل فن: له مقالة في أصول الدين وإليه تنسب الفرقة المعروفة بالجاحظية من المعتزلة، وكانت وفاة الجاحظ بالبصرة سنة خمس وخمسين ومائتين. والنَّظَّام نقلوا عنه: أن ما خرج عن محل القدرة ففعل الله جعله طبعاً للمحل. فإن كان قول الجاحظ كما هو الظاهر من إطلاق الرواية عنه فبينه وبين قول النظام خلاف كبير من حيث أن النظام يضيف نحو القيام والقعود وسائر المباشرات إلى العبد ويجعلها فعله، والجاحظ لم يضفها إلى العبد ولا إلى الله بل إلى الطبع، وإن كان قوله على حسب المحمل الذي حملناه عليه كان الخلاف بينهما في أن ما خرج عن محل القدرة وهو المتولد ويقال له: المتعدي، يجعله النظام فعل الله بواسطة الطبع، والجاحظ يجعله للطبع فقط ولا يسنده إلى الله ولا إلى العبد.
واختلف أهل المقالات والأخبار هل الجاحظ شيخ النظام أم العكس؟ فقال الحاكم في العيون بالأول، وقال ابن خلكان بالثاني.
وقال معمر وصالح قُبَّهْ: ما خرج عن محل القدرة فهو فعل الله ابتداءً بلا واسطة طبع، وإنما ينسب إلى العبد لوقوعه بواسطة فعله عادة كالإحراق بالنار والموت بالسم ونحو ذلك.
وقال ثمامة بن الأشرس: ما خرج من محل القدرة فهو حدث لا محدِث له.(1/412)
فظهر إنما التنازع والاختلاف بينهم الجميع في شأن المتولد الخارج عن محل القدرة دون المباشر القائم بالإنسان كالقيام والقعود والمشي وتحريك اليد، فلا يتأتى إنكار الجاحظ أن ذلك فعل العبد مع ما له من دقة النظر وتحقيق أفنان العلوم، والله أعلم.(1/413)
الرد على القائلين: بأن الله تعالى خلق أفعال العباد
شبهتهم الجميع: أن الحجر يذهب في الهواء عند الرمي به ولا يقدر العبد على توقيفه والزيادة أو النقص عن المسافة التي ينتهي إليها بعد انفصاله وخروجه من الكف.
قلنا: وإن كان الأمر كذلك فهو لايستلزم ما ذكرتم، لأن صدور المسبب بعد وجود سببه واجب لذات السَّبَب أو لما هو عليه في ذاته مع تكامل شروطه لأن فاعل السبب فاعل المسبب، وقلنا: لذات السَّبَبِ. وهو نفس الرمي بالجسم، وقلنا: أو لما هو عليه في ذاته، نريد به تزايده ونقصانه بالنظر إلى ذاته، وقلنا: مع تكامل شروطه. وهي صلاحية المحل للفعل المتولد كالصلابة والثقل في الحجر، ولهذا لا يقع مثل ذهابه في الهواء لو رمى بقطعة قطن ونحوه لاختلال ذلك الشرط بل يقع بقدر ما فيها من الثقل والصلابة حتى لو بلغ حصره إلى قدر الشعرة والشعرتين ونحوهما لتعذر الرمي بذلك،ومن الشروط أن يوجد من القدرة في بدن الرامي ومن الاعتماد واندفاع اليد في الهواء على حسب الشدة والسرعة ما يكون منه من الذهاب على قدر المسافة التي أراد الرامي وصول المرمي به إليها، ولهذا يتعذر الرمي بالحجارة نحو الميل فما فوقه في العادة ويتعذر إصابة المحل المقصود بالمرمي مهما وجد من الاندفاع والاعتماد أكثر مما يلزم أو أقل، وتجد الرامي الماهر يوقع من ذلك الاعتماد والاندفاع ما لا يخطي معه المحل المقصود غالباً، فهذه جواب شبهتهم المذكورة.(1/414)
وبهذا يظهر لك أن وجود المتولد وكثرته وقلته وتخصيصه بجهة دون جهة ووقت دون وقت كل ذلك قبل إيقاع سببه المتولد عنه واقف على اختيار العبد وقصده وداعيه، وأن استمرار عدم وجوده واقف كذلك على كراهته وصارفه ويتعلق به الأمر والنهي والمدح والذم والثواب والعقاب وسائر الأدلة الدالة على أصل المسألة، فثبت أن المتولد من فعل العبد فَعَلَهُ، ويلزمهم على إنكارهم ذلك أن لا يكون القاتل قاتلاً ولا السارق سارقاً، لأن هذه الأفعال ونحوها لا تحصل إلا متولدة عن الاعتمادات والحركات الصادرة من الإنسان فتبطل الحجة لله سبحانه وتعالى في قوله: ?فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ?{البقرة:91}.
قال الإمام يحيى عليه السلام : واعلم أنه لا عجب من المجبرة في هذا القول بأن هذه الأفعال المتولدة من فعل الله تعالى مع قولهم بالجبر والتزامهم له، وإنما العجب من هؤلاء الجماهير من المعتزلة مع اعتزالهم إلى الفئة العدلية واعترافهم بالاختيار وكونهم خصما للمجبرة في كل مقام، كيف قالوا بهذه المقالة ووقعوا في عميقات هذه الجهالة وكرعوا من آجن هذه الضلالة! ذكره عنه في شرح الأساس.
الثاني: قالت العدلية: تصرف الساهي والنائم فِعْلُهُ.والخلاف فيه لأهل الجبر فهو عندهم: من الله تعالى بلا كسب.
لنا: وقوعه على حسب قدرة العبد في القلة والكثرة بدليل أنه لا يحصل منهم في حال السهو والنوم ما لا يقدر عليه في حال اليقظة والتمييز، ذكره في القلائد وشرحها.(1/415)