وملوكهم لما في أيديهم من متاع الحياة الدنيا، وخلق لهم الأسماع والأبصار وسائر الحواس والجوارح مع صحة الأبدان، وتكفل بأرزاقهم من الوجوه التي يحل تناولها منها، فرفضوا إعمال الأسماع والأبصار وسائر الجوارح في طاعته والسعي على النفس ومن تعبده بالإنفاق عليه من الوجوه الجائزة، وأعملوا أسماعهم وأبصارهم وسائر حواسهم وجوارحهم في غير ما خلقت له، وتناولوا الحرام واتبعوا الشهوات واللذات والرئاسات والتقرب إلى سلاطينهم فمنعهم الله التوفيق والهداية التي اقتضت الحكمة استحقاقهما لمن انقاد وأذعن لما فطر الله العقول عليه، فأما دعاؤهم إلى الإيمان مع التمكين منه والترغيب فيه بوضع الثواب الجزيل والمضاعفة والزيادة في المساومة، فقد فعله لهم على حسب ما هو عليه في حق المؤمن بلا فرق، فأعرضوا عن إجابة داعيه، وكذبوا من بلَّغهم ذلك من رسله وسائر أوليائه وتجاوزوا ذلك إلى أن عادوهم وقاتلوهم وشردوهم وطردوهم، ولما لم تتم لهم تلك المآرب إلا بارتكاب الجرائم والعظائم وتحريف العقائد الصحيحة عن مقتضى الفطرة، وضع لهم علماء السوء وأهل الإلحاد شبهاً وأوهاماً يتوصلون بها إلى نيل مراداتهم وجعلوها أصولاً باعتقاداتهم بعد أن فرقوهم فرقاً وأحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون وكل في طغيانهم يعمهون يمرحون، وانتصب من كل فريق منهم أمير، وجميعهم ممن يجادل في الله بغير سلطان ولا هدىً ولا كتاب منير، ويوم القيامة يتبرأ التابع من المتبوع ويكفر بعضهم ببعض وما لهم من دون الله من ولي ولا نصير، وقد أشار الله تعالى إلى معنى ذلك بقوله: ?وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ? {الأحقاف:26}، فأخبر(1/406)
سبحانه وهو أصدق القائلين أنه مكنهم كما مكن المؤمنين المخاطبين بقوله ? مَكَّنَّاكُمْ? وأن أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم وهي العقول صحيحة لأنه على تقدير الشبيه المفهوم من أول السياق، وهو أن المعنى كالأسماع والأبصار والأفئدة التي جعلناها لكم فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء لأنهم أعملوها في نقيض ما خلقت له وهو التفكر في ملكوت السماوات والأرض وما بينهما وفي أنفسهم حتى يعلموا بطلان ما شغلوها به من تحرير شبه الإلحاد والضلال وعصيانه تعالى، وعبادة غيره ودعوى إلهية الأصنام والحجارة، وقتل رسله والأئمة الهادين إلى ما بعثوا به يدل على صلاحية الأسماع والأبصار والأفئدة لما خلقت له وهي معرفة الله وطاعته تعالى، تعليله: عدم انتفاعهم بها بجحدهم الآيات الظاهرة لهم والبراهين القائمة عليهم حيث يقوله أصدق القائلين: ? إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ?وأنهم كانوا يستهزئون الأمر مع أنه جد وحق لا يستهزأ ولا يرتاب في مثله فقال: ?وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون?، واقتضى الكلام أن عقولهم قد عرفت الحق فجحدته هُزاءً وكانت متمكنة من معرفته وقبوله فتركت النظر والتفكر الموصل إليه، فمن ثمه أخبر عنهم في بعض الآيات أنهم جحدوا ذلك مع العلم لكن استخفافاً وهزواً وظلماً وعلواً على الله تعالى وعلى أوليائه الداعين إليه كما في هذه الآية.(1/407)
وقوله تعالى: ?وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا?{النمل:14}، وقوله تعالى: ? فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ?{الأنعام:33}، وفي بعض الآيات لامهم وذمهم على ترك النظر كما في قوله تعالى: ?أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ? الآية{الغاشية:17}ونحوها، وأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يوقضهم عن غمرتهم وغفلة سِنَتِهم إن لم يخطر ببالهم حسن النظر ولزومه وأنه يوصل إلى العلم بالحق فقال عز من قائل: ?قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ? الآية{يونس:101}ونحوها، وجميع ذلك يفعله عز وجل معهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فيقولوا: لو أنذرنا منذر لإصلاحنا كما قال عز وجل: ?وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى?{طه:134}، فأين يتاه بالجبري الجهمي والأشعري وغيرهما ممن ينظمه الافتراء على الله في سلك القَدَرِي عن أسرار هذه الآيات اللطيفة ومعانيها الظريفة وعجائبها البديعة الطريفة وثمراتها اللذيذة القطيفة، وما يلزمها من قواعد العدل الثابتة الكثيفة المقتضية لتنزيهات الله تعالى المنيفة الشريفة، لكن الشيطان قد صَرَف أفئدة القوم وأغواهم عن أن يلتفتوا إلى آيات الكتاب الكريم أو يدندنوا حول تنزيه العزيز الحكيم.
وأما السنة:
فمن ذلك ما أخرجه مسلم بن الحجاج يقول الله عز وجل: " يا عبادي إني خلقتكم كلكم حنفاء فجاءتكم الشياطين فاغتالتكم عن دينكم، وأمروكم بالكفر فكفرتم، وبالفسق ففسقتم، وبالفجور ففجرتم".
وأخرج أيضاً في حديث طويل: " فإنما هي أعمالكم يوفيكم الله إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" أو مثله.(1/408)
وأخرج أيضاً عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستفتح في صلاته ويقول في تلبيته: "اللهم والخير كله بيديك والشر ليس إليك ".
وأخرج ابن أبي شيبة والقاضي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: " كل مولود يولد على الفطرة حتى تُعْرِبُ عنه لسانه إما شاكراً وإما كفوراً ".
وأخرج الناطق بالحق وأبو الغنائم في الأربعين والقاضي عن أبي ذر مرفوعاً: " يقول الله عز وجل يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم حراماً فلا تظالموا يا عبادي إنكم الذين تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر لكم الذنوب ولا أبالي" الخ.
وأخرج الحارث بن محمد والقاضي عن أبي هريرة مرفوعاً: " قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومَلِيكُه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشَرَكِه ".
وأخرج أبو يعلى والقاضي عن جنادة ابن أبي أمية بينما أنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله، وتصديق به، وجهاد في سبيله، وحج مبرور. فلما وَلَّى الرجل قال: وأهون عليك من ذلك إطعام الطعام، ولين الكلام، والسماحة وحسن الخلق. فلما وَلَّى الرجل قال: وأهون عليك من ذلك أن لا تتهم الله على شيء قضاه عليك ".
وأخرج محمد بن أبي دثار مرفوعاً: " أبغض المباحات إلى الله الطلاق ".
وأخرج الإمام علي بن موسى عليهم السلام عن علي عليه السلام مرفوعاً: " أن موسى سأل ربه فقال: يا رب أينما ذهبت أوذيت فأوحى الله إليه أن في عسكرك غَمَّاز فقال: يا رب دُلَّني عليه، فأوحى الله إليه أني أبغض الغَمَّاز فكيف أَغْمِز ".(1/409)
وأخرج الإمام زيد بن علي عليهما السلام واللفظ في أبي طالب والمرشد بالله عنه صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله يحب الحَيِي الحليم العفيف المتعفف، ويبغض البذيء الفاحش الملح الملحف "، زاد الناطق بالحق: "إن الله لا يحب وأد البنات، وعقوق الأمهات ولا قائلاً لا وهات، إن الله لا يحب إضاعة المال، ولا كثرة السؤال، ولا قيل ولا قال".والسنة مملوءة من نحو هذا.
وأخرج الإمام علي بن موسى عليهما السلام عن علي عليه السلام : أن يهودياً سأله فقال: أخبرني عما ليس لله؟ وعما ليس عند الله؟ وعما لا يعلمه الله؟ فقال عليه السلام : أمَّا ما لا يعلمه الله فذلك قولكم يا معاشر اليهود: عزير بن الله وأنه لا يعلم له ولداً، وأمَّا ما ليس عند الله: فليس عند الله ظلم للعباد، وأمَّا ما ليس لله: فليس لله شريك، فقال اليهودي: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وقال عليه السلام : الذي عظم حلمه فعفا، وعدل في كلما قضى، وعلم بما يمضي وما مضى.
وقال عليه السلام : وأشهد أنه عَدْلٌ عَدَل وحَكَمٌ فصل.
وقال عليه السلام : الذي صدق في ميعاده وارتفع عن ظلم عباده.
وقال أبو بكر في الكلالة: أقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان.
وقال عمر لسارق: ما حملك؟ قال: قضاء الله وقدره. فقال: لَكَذِبُه على الله أعظم من سرقته. وكتب كاتب عنده: هذا ما أرى الله عمر. فقال: امحه واكتب: هذا ما رأى عمر فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني والله ورسوله منه بريئان.
وقال ابن مسعود في مفضوضة البُضْع: أقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان، وعن ابن عمر نحوه. وبالجملة فهو دين جميع الأنبياء والمرسلين ذكر ذلك كله شيخنا رحمه الله في السمط.
وأما الإجماع:(1/410)