مصداق لشيء مما سيقت له وصرحت بمعناه، ثم سَجّل عليهم بأن أكثرهم لا يعقلون مع كونهم عاقلين، لكن نزلهم بمنزلة غير العقلاء لما حصل منهم ما لم يحصل من العقلاء تأكيداً وزيادة في تقبيح فعلهم وتحذيراً لأهل العقول عن سلوك سبيلهم في اعتقاد أن الله تعالى شرع ذلك، فكيف باعتقاد أنه تعالى فعله وأراده وكره منهم ضده وتركه؟!
ومنها: قوله تعالى: ?آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ? {الحديد:7 }، ثم قال: ?وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ? {الحديد: 8 }، ? وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ? {الحديد:10}، فلو كان عز وجل خلق فيهم الأفعال لما كان لهذا الكلام معنى بل هو جدال بباطل، إذ المعلوم أنه لا يصح أن يقال للعبد الزنجي إِبْيَضَّ ومَا لَكَ لاَ تَبْيَضّ وما لك لا تكون حسن المنظر، بل يكون ذلك إن أريد فيه الأمر بذلك والإنكار على عدم فعل المأمور به لا بد تكليفاً لما لا يطاق وجدالاً بالباطل، وإن لم يرد فيه الأمر بذلك والإنكار كان هزواً ولعباً، تعالى الله عما يقوله المبطلون علواً كبيراً، ولو كان الإيمان وعدم الإنفاق من فعله تعالى لكان للكفار أن يجيبوا عن هذا أن يقولوا: وكيف نؤمن وكيف ننفق وقد خلقت فينا الكفر والإمساك من الإنفاق، وما معنى هذا الإنكار والاستنكار علينا والجميع هو بخلقك وإرادتك وقضائك وقدرك فينا ولا فعل لنا أصلاً في ذلك ولا حيلة لنا في شيء مما هنالك؟!
ومنها: قوله تعالى: ?وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ? {المؤمنون:63}، وعلى قول المجبرة ليس لهم أعمال بل العمل هو لله فتكذب الآية من جهتين بل من ثلاث: من جهة تقبيح أعمالهم لأنها من الله تعالى، ومن جهة قوله: ?وَلَهُمْ أَعْمَالٌ? إذ ليس لهم أعمال، ومن جهة قوله: ?هُمْ لَهَا عَامِلُونَ?بأنه هو الذي لها عامل!(1/401)


ومنها: قوله تعالى: ?يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ? {النساء:142}، وقوله تعالى: ?وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا ? {النمل:50}، وقوله تعالى: ?إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا o وَأَكِيدُ كَيْدًا ? {الطلاق:15،16}، فقابل مكرهم بمكره وخداعهم بخداعه وكيدهم بكيده، ولو كان الأمر كما زعمت المجبرة لكان فاعل الجميع ولما كان لهذه المقابلة معنىً صحيحاً فتعود الآيات هزواً ولعباً وكذباً‍
ومنها: قوله تعالى: ?يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ? {النور:24}، وقوله تعالى: ?الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ? {يس:65}، فلو كان تعالى هو الفاعل لما عملوه لكانت شهادة الجوارح في ذلك كلها زائرة فتنقلب الآيات هزواً ولعباً وكذباً‍(1/402)


ومنها: قوله تعالى: ?وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى? {الزمر:71}، وقال تعالى: ? كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ o قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ?{الملك:8،9}، فلو كان كما تقوله المجبرة لما كان لسؤال الملائكة وتحسيرهم معنى، ولما كان ذلك الجواب صحيحاً صادقاً بل كان الجواب الصحيح المطابق أن يقولوا: وما يغني عنا إتيان الرسل وتلاوتهم علينا الآيات وإنذارهم إيانا وقد خلق الله فينا الكفر والتكذيب وأراده منا وقدره وقضى به علينا وكره منا الإيمان وحال بيننا وبينه ولم يفتح لنا إليه الباب وضرب بيننا وبينه الحجاب، وما وجه لومكم أيها الملائكة الكرام إيانا وتشنيعكم بهذا الكلام علينا، فأنتم الحكم بيننا وبينه إن كان فعل فينا ذلك وأراده منا وقدره وقضى به علينا ثم يعذبنا عليه أبد الآبدين ودهر الداهرين بلا فعل منا ولا قدرة لنا على تركه ودفعه عنا، وما معنى قوله إن كان صادقاً ?إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ?وقد ظلمنا هذا الظلم الذي ما عليه من مزيد ولا فوقه مرتبة من الظلم قريب ولا بعيد؟(1/403)


فهل يجد المجبر القدري جهمياً كان أم أشعرياً جواباً للملائكة عليهم السلام غير أن يقولوا: صدقتم أنه خلقه فيكم، وأراده منكم، ومنعكم الإيمان، وصار يعذبكم بلا استحقاق ولا جرم صدر منكم، فلا وجه لذلك بل هو ظلم واعتداء عليكم أو تنقطع ألسنة الملائكة عن الحجة الظاهرة أو يتركون الجواب محاباة وعدم إنصاف على طريقة الظلمة الفجرة، أو يرجعون حينئذ إلى الجدال بالباطل والمكابرة من أنه لم يظلمكم وإن خلق فيكم الكفر وعذبكم عليه فهو غير منهي، فمن ذا يحكم بالحق ويعرفه حينئذ؟ إذاً لقضت العقول السليمة والألباب المستقيمة بإلهٍ غير الله تعالى يفصل بينهم الجميع وينتصف للمستيسر الضعيف الوضيع من المتعدي الجائر الرفيع ويكفه عن ظلمه ويمنعه عن غشمه ويقهره في سلطانه وينقض ما أبرمه من حكمه ولله القائل:
المُجْبِرُون يُجَادِلون بباطلِ .... وخِلاَفِ ما يَجِدُون في القُرْآنِ
كُلٌّ مقالته الإله أَضَلَّنِي .... وأَرادَ ما قَدْ كَانَ عَنْه نَهَانِي
أَيقولُ رَبُّكَ للخلائقِ آمِنُوا .... جَهْراً ويَنْسِبُهُمْ إلى العِصْيَانِي
إِنْْ صَحَّ ذَا فتعوذوا من ربِكمُ .... وذَروا تَعَوذَكُم من الشَّيْطَانِ(1/404)


ولا تنخدع أيها الطالب الرشاد بلوامع سراب الكسب الكذب الذي يلجأ إليه الأشعري عند العِنَاد، فذلك في التحقيق أوهن من نسج العنكبوت وهو بنص الكتاب لأَوهن البيوت، لأنه يعود السؤال بعد اللجاء إليه والتعويل بعد انقطاع حججهم عليه بأن يقال: وهل الكسب شيء خلقه الله تعالى كان جبراً من جهتين وافتراءاً عليه بصورتين، أم لم يخلقه الله؟ فكان يكفيهم الإقرار بأن الفعل لم يخلقه الله وينزهوا الله عن كل قبيح ورذيلة، ويجعلون الفعل جميعه من جهة العبد وقبيله لتستقيم معاني الآيات الكريمة على مقتضى فطرة العقول السليمة، غير أن الله سبحانه وتعالى له المنة العظمى على التوفيق والهداية ودعاء الخلق إلى الإيمان وتمكينهم منه وترغيبهم في فعله بوضع الثواب الدائم الجزيل لفاعله والزيادة في مضاعفته والتكرم بزيادة السَّوم على نفسه حتى جعل الحسنة بعشر أمثالها وسبع مائة ضعف في بعض الأعمال وإلى ما لا حصر له في بعضها، ولولا هذه المقدمات المعدودة التي لا تكون عند غيره تعالى موجودة لما حصل الإيمان من أحد قال تعالى: ?وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا ولكن الله يزكي من يشاء?{النور:21}، وهو الذي ينقاد ويذعن لحكمه، ويجيب أول صوت من داعيه ويستهديه ويستجديه ويترك المراء والجدال بالباطل فيدخل في زمرة من يشاء أن يزكيه كما قال تعالى: ?وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ? {محمد:17}، وله عز وجل الحجة البالغة على العصاة والمبطلين والكفرة المشركين والمعطلين، حيث أنه عز وجل خلق لهم العقول القابلة التفكر الموصلة إلى معرفته في ملكوت السماوات والأرضين وما بينهما، وفي أنفسهم فرفضوا عقولهم عن أن يتفكروا، بها ومالوا إلى اتباع الشياطين في دعائهم إلى الإلحاد والسعي في الأرض بالفساد، والميل إلى الطمع، وهوى النفس، وحب الرئاسة، والتقرب إلى كبرائهم وسلاطينهم(1/405)

81 / 311
ع
En
A+
A-