وهي توقفها على دواعينا وإرادتنا وصوارفنا وكراهاتنا وجوداً وانتفاءً فهو أيضاً معلوم ضرورة، وإلا لكانت بمثابة الصور والألوان لا تحصل فينا عند دواعينا وإرادتنا ولا تنتفي بحسب كراهاتنا وصوارفنا، وهذا كما ذكر في الدليل السابق من قياس الأفعال على الصور والألوان لو لم تكن الأفعال من لدينا في عدم توقفها على قصودنا ودواعينا وإراداتنا لكنها لما لم تكن من فعل الله تعالى توقفت على قصدنا وداعينا وانتفت بحسب قصدنا وصوارفنا عكس الصور والألوان، فالأصل الصور والألوان، والفرع أفعالنا، والعلة التي افترقا فيها التوقف على القصد والداعي والكراهة والصارف في الأفعال وعدمه في الصور والألوان، والحكم وهو أنه يثبت للأفعال نقيض ما ثبت للصور والألوان،وقد ثبت أن الصور والألوان ليست من فعلنا لعدم توقفها على ما ذكر، فيجب أن تكون الأفعال من لدينا لتوقفها على ما ذكر، ويقال فيه بالقياس الاستثنائي على قواعد المَنَاطِقَة كما قيل في الذي قبله: لو كانت أفعال العباد من الله تعالى لما توقفت على حسب قصدنا ودواعينا وصوارفنا وكراهتنا لكنها توقفت على ذلك فلم تكن من الله أو لكنها ليست من الله فتوقفت على ذلك، فالاستثنائية في الأول والنتيجة في الثاني مجمع عليهما وهو التوقف على القصد والكراهة، فيجب أن تكون النتيجة من الأول وتكون الاستثنائية في الثاني صحيحاً وهو أنها ليست من الله تعالى، وهذان الاعتباران المبني عليهما تصحيح مذهبنا كما ترى.
وإن قلت: كما هو مقتضى مذهب الجبر في الاستثناء لكن ليست واقفة على قصدنا ودواعينا وصوارفنا وكراهتنا فهي من الله تعالى أو لكنها من الله فلم تكن واقفة على ذلك.(1/396)


فهذان الاعتباران وإن كان ناتجهما أنها من الله تعالى لكنهما فاسدان، لأن الأول مبني على إنكار الضرورة، والثاني نتيجته معلومة البطلان ضرورة وهو عدم توقفها على قصدنا وكراهتنا، وذلك واضح كما ترى، فثبت بهذا الدليل أن أفعالنا منا لا من الله تعالى كما ثبت بالدليل الذي قبله.
دليل ثالث وضعي: وهو أنه أجمع أهل اللغة أنه يشتق ويوضع لكل من فعل فعلاً اسم فاعل من فعله فالثلاثي على وزن فاعل وما عداه على وزن مضارعه بميم مضمومة من أوله على حذف حرف المضارعة ووضع الميم بمحله، فيقال: ضارب لمن فعل الضرب، وقاتل وسارق وزان وكافر وكاذب وفاسق لمن فعل الأفعال المشتق هذه الاسماء منها مكذب ومستهزء ومكتسب ومستريح ونحو ذلك، فلو كان الله تعالى هو فاعل معاني ما اشتقت منه هذه الأسماء للحقته هذه الاسماء، تعالى الله عن ذلك وتقدس وله الأسماء الحسنى، فإذا كان مذهب الخصم يؤدي إلى هذا وجب القطع ببطلانه، وهذا واضح.
دليل رابع إلزامي: لو كانت الأفعال من الله تعالى لكان الأمر بها أمر بما لا يطاق، والنهي عنها نهي عما لا يطاق، وأكثر أهل الجبر لا يجوزه وأكثر من جوزه يمنع وقوعه، فلم يبق إلا القول بأن ما أمر به أو نهى عنه هو فعل العبد ليمكن الحكم عليه بأنه مما يطاق.
فهذه أربعة أدلة كل واحد منها قاض: بأن أفعال العباد منهم لا من الله تعالى.
وقد أورد على الأول: بأن الإنسان قد يحمد ويثاب على فعل غيره كما يحمد الإنسان على فعل ولده، وكحمدكم الله تعالى على الإيمان مع اعتقادكم أنه فعلكم.
وعلى الثاني: بأن فعل الساهي والنائم عندكم أنه فعلهما مع كونه غير واقف على قصده وإرادته.
وعلى الثالث: بأن الله فعل الولد ولا يقال له والد، وكذلك الحلاوة والحموضة ونحوهما ولا يقال له حالي وحامض.
وعلى الرابع: أن المأمور به مقدور للعبد والمنهي عنه كذلك مقدور له، لأن له قدرة على كل واحد منهما وإن كانت موجبة له.(1/397)


وأجيب عن الأول: إنما حمد الأب وأثيب على فعل ولده لما له فيه من العناية وتعليمه وإرشاده إلى ما فعله الولد من الخير ولأنه السبب في وجوده، وحمدنا الله تعالى على التوفيق والهداية وإرسال الرسل بالدعاء إلى الإيمان.
وعن الثاني: أن الساهي والنائم إنما يردان على العكس وذلك لا يقدح في الدلالة وإنما يقدح فيها وما يرد على الطرد، لأنا قلنا: كلما توقف على الداعي والقصد من الإنسان فهو فعله، ولم نقل: وكلما لم يتوقف على قصده فليس بفعله، وغايته أن هذا الدليل لا يتناول فعل الساهي والنائم فيستدل على ذلك بدليل آخر كما سيأتي تقرير الكلام فيه.
وعن الثالث: أن الوالد في اللغة اسم لمن خلق الولد من مادته وليس اسماً لمن فعل الولد فاسم الفاعل فيه مُولِّد من أولد المتعدي، والحالي والحامض اسم لما حلته الحموضة والحلاوة وليس اسم فاعل لمن فعلهما وإنما اسم الفاعل مُحَلِّي ومُحَمِّض.
وبعد، فهذا وارد على العكس وليس وارداً على الطرد الذي هو قادح في الدلالة لأنا قلنا كل من فعل قيل: له فاعل، ولم نقل: وكل من لم يفعل لا يقال له: فاعل.
وعن الرابع: بأن القدرة مهما كانت موجبة لمقدورها على زعمهم صار العبد معها غير قادر على فعل وترك، لأن خاصية القادر إمكان الفعل وإمكان الترك، فمهما كانت القدرة موجبة لأحدهما خرج عن كونه مقدوراً والقادر عن كونه قادراً وصار كالظرف للقدرة ومقدورها.(1/398)


الأدلة على أن أفعال العباد منهم، من الكتاب والسنة والإجماع
وأما الأدلة السمعية: فقد أشار عليه السلام إليها على جهة الإجمال ونشير إلى شيء منها على سبيل التفصيل فقال عليه السلام [ ولأن الله تعالى قد أضاف أفعال العباد إليهم، ] في كتابه الكريم ووردت السنة بذلك والإجماع واقع عليه ممن يعتد به.
أما الكتاب:
[ فقال تعالى: يَكْسِبُوْنَ، ويَمْكُرُوْنَ، ويَفْعَلُوْنَ، ويَصْنَعُوْنَ، وتَكْفُرُوْنَ، وتَخْلُقُوْنَ إفكاً ] وفي هذه الآية دلالة على جواز تسمية أفعال العباد خلقاً ومثلها: ?وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ ? {المائدة:110}، ? فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ?{المؤمنون:14}، وفي ذلك خلاف بين المتكلمين، فذهب الأكثر إلى جوازه وذهب أبو القاسم وغيره إلى منعه [ ونحو ذلك كثير في القرآن ] الكريم، بل ما من آية إلا وفيها دلالة على أن أفعال العباد منهم، إما إسناد فعل كما ذكر في هذه الآيات وغيرها وإما أمر بفعل، وإما نهي عن فعل، وإما وعداً ووعيد على فعل، وإما إرسال رسول إلى قوم ليؤمنوا، وإما ضرب مثل، أو تصريف آية ليعتبروا، أو إخبار عن مآل من آمن، أو مآل من كفر، أو تعليل فعل ليقع منهم آخر كقوله: ?كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا?{ص:29}، وكل ذلك لا يستقيم إلا حيث كانت أفعال العباد منهم لا من الله تعالى.(1/399)


وأما على جهة التفصيل فنشير إلى طرف يسير من الآيات الكريمة لأن الإتيان على جميعها يفتقر إلى جملة مجلدات،فمن ذلك قول الله تعالى: ?مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ?{المائدة:103}، وجه الاستدلال بها أنه تعالى نفى عن نفسه أنه جعل تبحير البحيرة، وتسييب السائبة وحكم أن الذين كفروا يفترون على الله الكذب في نسبتها إليهم وأنه شرعها لهم، وسواء قالوا مع ذلك أنه خلق ذلك التشريع فيهم أو لا يقولون بذلك بأن يقولوا بأن الله تعالى شرعها لهم ففعلوه لأنه قد نفى الجعل الذي هو أعم من التشريع والخلق، والمجبرة يقولون: بل خلق وأراد ذلك ولم يكرهه منهم. فبطلت الآية وسقط معناها على زعمهم من كل الوجوه من وجه ما سيقت له وهو تقبيح فعلهم التبحير والتسييب ونحوهما، لأنه تعالى هو الفاعل بزعمهم فلا يصح أن يقال ما جعل الله الخ، ومن وجه نفي كون ذلك من الشرع لأنه إن كان ذلك التشريع الذي اعتقده الكافرون وزعموه شرعاً هو بخلق الله وإرادته كان شرعاً صحيحاً لا محالة، ومن وجه إبطال ما حكم به تعالى ونص عليه أن الذين كفروا يفترون على الله الكذب في نسبة ذلك التبحير والتسييب إليه تعالى، لأنه إذا كان هو الذي فعل التسييب ونحوه بزعم المجبرة وأراد فعله منهم وفعل تشريعهم إياه وأراده منهم كان قول المشركين: إن الله شرعها لهم أو شاءها منهم أو خلقها فيهم صدقاً لا محالة، فينقلب الافتراء في قول الله تعالى: ?مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ ? إلى آخر الآية، ويصير عز وجل هو المفتري من جهة إخباره بالشيء على خلاف ما هو عليه، ومن جهة خلق الافتراء فيهم فهو المفتري في الحقيقة لأنه فاعل هذا الافتراء وخالقه ومريده وغير كاره له، فبطلت ثمرة الآية من كل الوجوه وعادت هزواً ولعباً وسخرية وقولاً باطلاً لا(1/400)

80 / 311
ع
En
A+
A-