كان مشاققاً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث صار يحكم لمن حاربه وسبه وبغضه بنقيض ما قضت به الآيات والأحاديث المذكورة، وإن أنكر صحتها وورودها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد باهت في رده المتواتر الذي أطبق على روايته الموالف والمخالف، وإن أنكر دلالتها على ما ذكرنا من الأحكام التي ثبتت لأمير المؤمنين عليه السلام من أن حربه حرباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسبه سبه، وبغضه بغضه، وأن مخالفه مخالف للحق والقرآن، فهو جهالة مفرطة وتعامي عن الحق بعد وضوحه، لأن تلك الأحاديث صريحة في تلك المعاني بحيث لا تحتمل غيرها، وإن تأولها وأخرجها عن معانيها المصرحة بها بغير دلالة ولا موجب سوى تحسين الظن بمن عدوه في الصحابة وهو عنهم بمكان بعيد، فليس ذلك إلا من باب اتباع الهوى والمجادلة بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ? وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ? {القصص:50}.(1/36)
فهذه مسألة حكم الصحابة قد تعجلنا الكلام فيها، وإن كان الأليق بها أن تذكر عند الكلام على مسائل الإمامة لكن لما كان المقصود شرح ألفاظ المختصر وبيان إشارات المؤلف عليه السلام بقوله: وعلى صحابته المكرمين المؤيدين، إلى حكمهم وهو العدالة والتزكية لمن استقام منهم على الحق عهده وبعده صلى الله عليه وآله وسلم، والحكم بخلاف ذلك لمن خالف الحق منهم عهده وبعده صلى الله عليه وآله وسلم لزم بسط الكلام بما ذكر، ولأنه يسمو بك أيها المطلع من الكلام لأمير المؤمنين عليه السلام في مسائل التوحيد والعدل وغيرهما من مسائل الكتاب ما فيه الاستنارة والهداية لمعرفة الحق في تلك المسائل، فحسن تقديم ما يدل على علو شأوه وارتفاع شأنه عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن قوله حجة ومعيار للحق ومدار للصدق سيما في العقائد الدينية والمسائل الأصولية التي الحق فيها مع واحد، فهو عليه السلام إمام المتكلمين، وسابق العارفين، وأول من قرر قواعد هذا العلم، وأسبق من اعتقل شوارد هذا الفن، ودخله من باب السلم صلوات الله وسلامه عليه بعد أخيه سيد المرسلين وعلى جميع آلهم الطاهرين، وحشرنا في زمرتهم وتحت لوائهم آمين.(1/37)
قال عليه السلام : [ أما بعد ]: هو من ظروف الغايات يبنى على الضم إذا حذف ما أضيف إليه ونوي معناه كما في هذا الكتاب وغيره أي بعدما ذكر من الحمد وغيره، وقد قيل: إن أول من قال هذه الكلمة داود عليه السلام ، وأنه المراد بقوله تعالى: ? وَفَصْلَ الْخِطَابِ ? {ص:20}، وقيل: قس بن ساعدة، وقيل: علي عليه السلام ، [ أيها الطالب للرشاد ]، وهو الاهتداء إلى سبيل الحق المبين، [ والهارب بنفسه عن هوة الإلحاد ]، شبه الإلحاد وقد عرفت معناه وهو الميل عن الحق فيما يجب من إثبات الصانع تعالى، وصفاته من كونه قادراً على كل المقدورات عالماً بجميع أعيان وأحوال المعلومات حياداً بما ليس له ابتداء وليس له انتهاء بالمكان القعير المنخفض، ثم حذف المشبه به وهو المكان المنخفض، وأتى بما هو من خواصاته وهو الهُوِي إلى قعره فهي استعارة مكنية، والهوة: فعلة من الهُوِي وهو السقوط بشدة.(1/38)
معنى الرب
[ فإذا قيل لك: من ربك ؟ فقل: الله ربي ]، الرب بمعنى: المالك، كما يقال رب الدار، رب الفرس، ومنه قوله تعالى: ?اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ? { يوسف: 42}، أي مالك أمرك، واختلف فيه هل هو صفة ذات أو صفة فعل ؟ فقال الإمام المهدي عليه السلام وغيره: إنه صفة ذات لأنه بمعنى المالك، والمالك هو من يقدر على التصرف التام، وقادر صفة ذات فكذلك رب، وقال أبو القاسم البلخي: بل صفة فعل لأنه مأخوذ من التربية ولا يكون إلا بعد وجود المربي، قال الإمام القاسم عليه السلام : والحق أنهما أي مالك ورب صفتا ذات لا بمعنى قادر، إذ لا يدلان على معنى قادر مطابقة بل التزاماً كعالم، ولا قائل بأن عالماً بمعنى قادر، وليستا بصفتي فعل لثبوتهما لغة لمن لم يفعل ما وضعا له حيث يقال: فلان رب هذه الدار وإن لم يصنعها أو يزد فيها، ويقال: فلان مالك ما خلف أبوه وإن لم يحدث فعلاً، فهما صفتان له تعالى باعتبار أن المملوك له تعالى فقط، وهما حقيقتان قبل وجود المملوك.
قلت: هذا صحيح إلاَّ قوله: وهما حقيقتان قبل وجود المملوك، ففيه نظر إذ لا يتحقق الملك إلا بعد وجود المملوك، فأما قبله فليس إلا مجازاً لما كان قادراً على الملك أو تنزيل ما سيقع منزلة الواقع، وما ذهب إليه البلخي هو قول المرتضى عليه السلام وغيره من العلماء والله أعلم.(1/39)
المطرفية: الله لا يؤثر إلا في الأصول الأربعة
قوله: فقل الله ربي، هذا قول جميع فرق الإسلام إلا أن المطرفية زعموا أنه تعالى لا يؤثر إلا في الأصول الأربعة التي هي: الماء والنار والتراب والهواء، وما عدا ذلك متوالد منها بواسطة طبائعها الأربع التي هي: الحرارة والبرودة والرطوبة واليوبسة، وهذا زيغ شديد وضلال بعيد، وقد كُفِّروا بذلك إذ يكون الباري تعالى غير صانع مختار بالنظر إلى ما عدا ذلك من الحيوانات والنباتات، وهو أيضاً قول جميع أتباع الرسل عليهم السلام وأهل الكتابين، والبراهمة: وهم فرقة من الكفار يقرون بالصانع المختار وينكرون حسن النبوة، وهو أيضا قول بعض عباد الأصنام كما حكى الله عنهم: ?مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى? {الزمر:3}، والخلاف في ذلك لأهل الإلحاد كالسوفسطائية القائلين بالتعطيل وإنكار حقائق الأشياء، وهؤلاء أحقر من أن يلتفت إليهم بالمناظرة والمجادلة لإنكارهم وجود الأشياء المشاهدات فضلاً عن أن تكون محدثة وأن لها فاعلاً مختاراً، وكالفلاسفة والباطنية القائلين بأن أصل العالم المُؤَثِّر فيه علة قديمة.(1/40)