فهو أيضاً معلوم، لأنها لو كانت من الله تعالى لكانت بمثابة صورنا وألواننا، فكما لا يحسن في الصور والألوان شيء من ذلك كان يجب لأفعالنا لو كانت من الله تعالى أن لا يحسن عليها ولا يقع أمر ولا نهي ولا مدح ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب، ولما علمنا تعلق الأمر والنهي ونحوه بأفعالنا دون صورنا وألواننا علمنا يقيناً الفرق بينهما، ولا يصح أن يكون المرجع بهذا الفرق إلى شيء غير أن أفعالنا صادرة منا دون الصور والألوان، وهذا هو القياس المسمى في لسان الأصوليين قياس العكس، وهو أن يثبت للفرع نقيض حكم الأصل، فالأصل فيما نحن بصدده الصور والألوان، والفرع أفعالنا، والعلة التي ترتب عليها الحكم هي أن الصور والألوان لا يصح تعلق الأمر والنهي ونحوهما بها عكس الأفعال الصادرة من جهتنا وحكم ثبت للأصل الذي هو الصور والألوان أنها ليست من فعلنا معلل هذا الحكم بكونها لا يصح تعلق الأمر والنهي ونحوهما بها، فيجب أن يثبت للفرع نقيض حكم الأصل لما وجد فيه نقيض علة حكم أصله، فثبت الحكم أن أفعالنا مِنِّا لا مِنَ الله تعالى.(1/391)
يزيده وضوحاً على طريق المناقضة في القياس الاستثنائي أن يقال: لو كانت أفعال العباد من الله تعالى لما صح الأمر والنهي ونحوهما بها، ثم بعد ذلك إما أن يستثني نقيض المقدم فالناتج نقيض التالي فيصير الكلام لكنها ليست من الله فيصح الأمر بها، أو يستثنى نقيض التالي فالناتج نقيض المقدم فيصير الكلام لكنه صح الأمر بها فلم تكن من الله تعالى، وهذان الاعتباران صحيحان لأن نتيجة الأول واستثنائِية الثاني مجمع عليها وهو أنه صح الأمر والنهي عن أفعال العباد،وأما أن يستثني عين المقدم فالناتج عين التالي فيصير الكلام: لكنها من الله فلم يصح الأمر والنهي عنها، أو يستثني عين المؤخر فالناتج عين المقدم فيصير الكلام: لكنه لم يصح الأمر والنهي عنها فكانت من الله،وهذان الاعتباران فاسدان لأن نتيجة الأول واستثنائِية الثاني مجمع على بطلانهما، إذ لا قائل من الأمة أنه لم يصح الأمر والنهي عن أفعال العباد، فثبت بهذا أن أفعال العباد منهم لا من الله تعالى لإجماع الأمة على صحة الأمر والنهي عنها الذي هو لازم لخلق الأفعال، وهذا واضح كما ترى، وهذا الدليل الذي ذكره عليه السلام من أعظم الأدلة على أن أفعال العباد ليست من الله تعالى.
ومثله ما ذكره عليه السلام وهو الدليل الثاني بقوله [ ولأنه يحصل الفعل بحسب قَصْدِ الإنسان وداعيه، وينتفي بحسب كراهته وصَارفه ] ولا يختلف ذلك [ على طريقة واحدة، ] فلو لم تكن أفعال الإنسان منه لما وجبت فيها هذه القضية واطردت مهما كان الفعل من مقدوراته، وهذا الدليل مبني على أصلين أيضاً: أحدهما: أن الفعل يحصل بحسب قصد الإنسان وداعيه، وينتفي بحسب كراهته وصارفه. والثاني: أنه لو لم يكن منه لما وجبت فيه هذه القضية.(1/392)
أما الأصل الأول: فهو معلوم بالضرورة من حيث أن أحدنا متى أراد الانصراف إلى حاجة مما يتعلق بمصالحه ومنافعه وأخذ في الفعل الذي هو مظنة حصولها حصل منه ذلك الفعل لا محالة قضيت أو لم تقض نحو طحن الحب وعجنه وخبزه وتناوله للأكل، ونحو نقل الماء وإحرازه إلى الإناء وتناوله للشرب، وحراثة الأرض، والسفر إلى الأقطار،ولطلب الزراعة وربح التجارة سواء حصلت بعد ذلك العين المطلوبة وهي الغلة والربح أو لم تحصل لأنها أعيان وأجرام لا يقدر على إيجادها العبد، وإنما يقدر على ما هو كالسبب في حصولها وهو الحراثة والسفر وعقد الشراء والبيع ونحو ذلك.
إن قيل: وما يدريكم أن هذه الأفعال يخلقها الله فيكم عند أن تقصدونها وتريدون فعلها؟.
قلنا: لو كانت من فعل الله تعالى وخلقه فينا لكانت تختلف الحال فيها فكانت تحصل في بعض الأحوال عند أن لا نقصدها، وتمتنع في بعض الأحوال عند أن نقصد فعلها، والمعلوم ببديهة العقل أن الصحيح البدن متى أراد القيام والمشي وأخذ في فعلهما حصلا لا محالة ومتى لم يردهما لم يحصل شيء منهما البتة، ولو كانت بخلق الله تعالى لكانت بمثابة حصول الغلة وربح التجارة تارة يحصلان بعد وجود ما هو كالسبب لهما وتارة يختلفان.
وبعد فهذا يؤدي إلى رفع الثقة بالمعاملات لأنه يقتضي أن الأفعال الظاهرة من الإنسان من عقود البيع والنكاح والطلاق ليست واقعة منه فلا يلزم حكمها، ويؤدي إلى أن شهادة الشاهد عليه زور وحكم الحاكم عليه المستند إلى الشهادة أو إقراره باطل، لأنه حكم مبني على شهادة زائرة أو إقرار مستحيل عليه معلوم وقوعه من غيره، وأن الزاني والقاتل وغاصب المتاع إذا حلف ما فعل وقد شوهد ذلك منه وتيقن أنه فعله تكون يمينه بارة، أو حلف أنه فعل ما شوهد وقوعه منه أن تكون يمينه فاجرة، ومثل هذا تعكيس ورد وإبطال للشرائع وقلب لحقائق الأشياء وسفسطة، ورفع لقضايا العقول، ونقض لما جاءت به الرسل من الشرع المنقول.(1/393)
قال القرشي رحمه الله: وبالجملة فلو جمعت أهل الجبر في صعيد واحد ثم رأوا رجلاً يقتل آخر أو يأخذ ماله واستشهدهم بعض الحكام لشهدوا أنه قاتله ولما خالجتهم شبهة في ذلك، ولو كان الحق فيما ذهبوا إليه لكانت شهادتهم عليه في ذلك زائرة انتهى كلامه والمسك ختامه.
وأما أنها تنتفي بحسب كراهة العبد وصارفه، فهو معلوم أيضاً ضرورة، لأنه إذا رأى ما يضره أو يؤذيه من المسمومات والحرشات وسائر المضار والمشاق ولم يفعل ما يوصله إليه فلا يحصل منه الفعل أصلاً على وتيرة واحدة وطريقة مستمرة لا تختلف، ولو كانت من الله تعالى لاختلف فيها الحال فتارة تحصل فيه ولو كرهها وتجنب الوصول إليها كالأمراض، وتارة لا تحصل ولو تعرض للوصول إليها كالأمراض أيضاً.
وبعد فكان يلزم تحرير مثله في سائر أفعال الله تعالى إذا قصدنا حصوله فينا من الصحة وحسن المنظر وضخامة الجسم، وكذلك إذا قصدنا مثل ذلك في الغير الحبيب كالولد ونحوه أو ضده في العدو والبغيض، لأنه إذا كان الكل من فعل الله تعالى وتوقف حصول ما هو فينا من الأفعال الاختيارية على قصد حصولها ثم شاركها غيرها من سائر أفعاله تعالى فينا أو في من قصدنا حصولها فيه كان الكل من واد واحد وباب متحد، وتجويز مثل ذلك هوس وسفسطة بلا ريب.
وبعد فالقول بأنها من الله تعالى مع الاتفاق على نسبتها إلى العبد إثبات ما لا طريق إليه، وإثبات ما لا طريق إليه باطل قطعاً، وإلا لقلنا بوجود آدم من الجن غير هذا المعروف أنه أب البشر عليه السلام ، وإن أولاد ذلك الجني تشكلوا واختلطوا والتبسوا بأولاد هذا عليه السلام ،وذلك باطل قطعاً.
فإن قيل: مَنَعَ من هذا السمع فلا يتقدر لأنه مصادم له؟(1/394)
قلنا: كلامنا في المسألة قبل الالتفات إلى السمع بل بالنظر إلى الأحكام العقلية، وأيضاً فالسمع قد منع من تجويز الجميع، فإنه كما ورد أن هذا الإنسان من نفس واحدة فقد ورد بأن أفعال العباد منهم لا منه تعالى كما قال: ?وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ?{المؤمنون:63}.
وبعد فكان يلزم أنا نجد من أنفسنا لو كانت الأفعال مخلوقة فينا أنا مدفوعون إليها على وجه لا نقبل الانفكاك عنها كالمتردي من شاهق يجد من نفسه الهُوِي والسقوط إلى تحت ولا يقبل الانفكاك عن ذلك والضرورة تدفعه.
وبعد فلو جوزنا أنها من فعل الله تعالى لجوزنا أنها من فعل غيره تعالى من الملائكة والجن، لأن تقدير كونها ليست من فعلنا ليس بموجب كونها من فعل الله تعالى إلا إذا استحال وجود ثالث سيما على أصولهم أن الشيطان وسائر الجن قادرون على التشكل والتلبس بالإنسان فليس لهم منعه، ونحن وإن منعناه فإنما أوردناه معاملة للخصم بمجرى مذهبه.
وأما الأصل الثاني: وهو أنها لو لم تكن من أفعالنا لما وجبت فيها هذه القضية.(1/395)