فصل في الكلام في أن أفعال العباد منهم لا من الله تعالى
اعلم أولاً أن الفعل: هو ما وجد من جهة من كان قادراً عليه أو على ما تولد عنه. قلنا: ما وجد، جنس الحد دخل فيه جميع المؤثرات من جهة فاعل أو سبب أو علة أو مقتضى، وقلنا: من جهة من كان قادراً عليه. يخرج به المسببات ومعلول العلة والمقتضى عن مقتضيه، فلا يقال لها فعل السبب ولا فعل العلة ولا فعل المقتضي، وإنما يقال لها: أثر، وقلنا: كان قادراً عليه. لئلا يخرج عن المحدود الفعل الذي قد وقع لأن فاعله بعد وقوعه منه قد خرج عن كونه قادراً عليه أو على ما تولد منه لإدخال الأفعال المسببة عن فعل الفاعل لها كانكسار الزجاج المتولد عن ضربه بالحجر، فإن الانكسار فعل فاعل الضرب لتولده عنه، وينقسم الفعل بالنظر إلى العبد إلى: مباشر، ومتعدي.
فحقيقة المباشر: ما وجد في محل القدرة كالقيام والقعود والذهاب والمجيء ونحو ذلك.
وحقيقة المتعدي: ما وجد في غير محل القدرة بواسطة فعل في محلها كتحريك الإناء وكالعمارة والخياطة ونحو ذلك من الأفعال التي تكون في غير الفاعل بواسطة فعل في الفاعل الذي هو محل القدرة وذلك الفعل هو المباشرة، وينقسم قسمة أخرى إلى: مخترع، وغير مخترع.
فحقيقة المخترع: ما كان من دون مماسة ولا بآلة ولا احتذاء واقتداء بفعل الغير وذلك خاص بأفعال الله تعالى.
وغير المخترع بخلافه: وهو ما كان بمماسة أو آلة أو احتذاء أو اقتداء بفعل الغير وذلك خاص بفعل المخلوق، وينقسم قسمة ثالثة إلى: أصلي، ومتولد.
فحقيقة الأصلي: هو الفعل الموجود ابتداءً بلا واسطة فعل آخر.
وحقيقة المتولد: هو الفعل الموجود بواسطة فعل آخر، والجميع مُشترَك بين فعل الله وفعل العبد.
فمثال الأصلي من فعل العبد: القيام والقعود ونحوهما.
ومثال المتولد من فعله: انكسار الزجاج عند الضرب، وانهيال التراب عند المشي عليه ونحو ذلك.(1/386)


ومثال الأصلي من فعل الله تعالى: إيجاد الأجسام من العدم المحض وخلق القدرة والحياة في الحيوانات، وإيجاد الأعراض الموجودة في الأجسام ابتداءً.
ومثال المتولد من فعله تعالى: سير السفن في البحر المتولد عن إرسال الرياح عليها، وإيجاد النباتات والزراعات والثمار عن إنزال الأمطار ونحو ذلك.
وقد خالف أبو علي الجبائي في وقوع المتولد في أفعال الله تعالى لاستلزام الحاجة إلى السبب.
قلنا: لا يلزم الحاجة إلا لو لم يكن قادراً على المسبب إلا بفعل السبب، وهو تعالى قادر عليه من دون سببه ولقوله تعالى: ?اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا? {الروم:48}، وقوله تعالى: ?وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ?{الروم:46}، وقوله تعالى: ?وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ? {إبراهيم:32}، وأمثال ذلك كثير.
قال عليه السلام [ فإن قيل لك: ] أيها الطالب الرشاد [ هل خَلَق ربك أفعال العباد؟ فقل: لا يقول ذلك إلا أهل الكفر والعناد ].
ذهبت العدلية قاطبة إلى: أن أفعال العباد منهم لا من الله تعالى الصلاح منها والفساد.
وذهبت المجبرة إلى: أنها من الله تعالى الصلاح منها والفساد. وإليه أشار بقوله لا يقول ذلك إلا أهل الكفر والعناد، وفيه تكفير للمجبرة، وفي ذلك خلاف بين أصحابنا وسيأتي الكلام عليه في فصل الإكفار إن شاء الله تعالى.
واختلفت المجبرة في ذات بينهم فقال قدماؤهم الجهمية أصحاب جهم بن صفوان: هي من الله تعالى أصليها ومتولدها وليس للعبد فيها كسب وإنما العباد لها كالظروف وإضافتها إليهم كإضافة صورهم وألوانهم، فقام وقعد وصلى كطال ومات وابيض.
وقال ضرار بن عمرو: جميعها من الله تعالى والعبد كسبها.(1/387)


وقال الأشعري أبي الحسن علي بن أبي بشر ينتهي نسبه إلى أبو موسى الأشعري بمثل قول ضرار في الأصلي وبمثل قول جهم في المتولد.
وقال مدعوا التتحقيق منهم كالقاضي أبي بكر الباقلاني والرازي وابن الحاجب والسيوطي وهو قول الجمهور منهم: إن الله تعالى خلق للعباد قدرة موجبة للفعل وللعبد منه كسب، فالفعل خلقه الله تعالى بواسطة القدرة الموجبة له واكتسبه العبد لما كان له فيه الاختيار، وذلك منهم لما رأوا الفرق الضروري بين حركة المرتعش وحركة الباطش أن الأولى غير واقفة على الاختيار دون الثانية فهي واقفة على الاختيار.
وحكي عن بعض متأخريهم: أن الفعل جميعه للعبد وأن الله تعالى لم يخلقه فيه ولا أوجبته القدرة التي خلقها الله له عليه، ولكن خلق فيه شهوة وداعٍ موجب للفعل لا يقدر العبد معه على الترك.
فهذا حاصل الخلاف بينهم.
قال القرشي رحمه الله تعالى بعد ما حكى ما عدا آخرها: والأقرب أن هذه الأقوال ترجع إلى قول جهم في التحقيق لأن أهل الكسب لابد أن يجعلوا العباد كالظروف لها في الحدوث، فأما الكسب فهو إما أن لا يكون فعلاً فذكره هنا بطالة وهذيان لأن كلامنا في الأفعال، وأما أن يكون فعلاً فهو إما أن ينفرد الله به فهو قول جهم، وإما أن ينفرد العبد به بلا كسب خرجوا من مذهبهم أو مع كسب آخر تسلسل إلى ما لا ينتهي لأن كل كسب يحتاج إلى كسب، وكذلك المثبتون للقدرة الموجبة لابد أن يجعلوا العباد كالظروف لأفعالهم لأنه لا اختيار لهم في السبب ولا في المسبب ويصير الحال فيه كالحال في الشجرة التي يوجد الله فيها اعتماداً يوجب الحركة فإن ذلك لا يخرج الشجرة عن كونها ظرفاً للحركة الموجبة عن الاعتماد، فظهر لك أن المجبرة كلهم جهمية، انتهى كلامه رحمه الله تعالى مع زيادة بعض الألفاظ للإيضاح.(1/388)


قلت: وقوله رحمه الله: لأنه لا اختيار لهم في السبب والمسبب. فيه نظر لأن الاختيار ثابت بتسليمهم فيما أوجبته القدرة بزعمهم إلا أن يريد به أنه يلزم ذلك حيث أن القدرة موجبة للفعل المسبب عنها وليس لهم فيها اختياراً فإذاً لا اختيار لهم في الفعل لوجوبه عنها استقام، ولعله لا يريد غير ذلك، وتمثيله بالحركة المتولدة عن الاعتماد الذي خلقه الله في الشجرة فيه نظر أيضاً، إذ لا نعلم أن في الشجرة اعتماد سوى الحركة، فالأظهر في المثال التمثيل بالحركة في الشجرة المتولدة عن إرسال الريح ليظهر الفرق بين السبب والمسبب، والله أعلم.
نعم واختلف الأصحاب هل كون أفعال العباد منهم معلوم بالضرورة أو بالاستدلال؟ فذهب الجمهور أن ذلك إنما يعلم بالاستدلال وتقرير الأدلة عليه، وإنما المعلوم ضرورة نسبتها إليهم على الجملة من دون تفصيل هل الفعل واقع من العبد أو من الله تعالى؟ وذهب أبو الحسين البصري والإمام الشرفي عليه السلام ورواه شيخنا رحمه الله للأمير المؤلف ويفهم من بعض كلامه الآتي في المختصر أن كون أفعال العباد منهم معلوم بالضرورة لا مجال للشك فيه، لأن العقلاء يعلمون بعقولهم حسن الأمر بها والنهي عنها والترغيب والترهيب والمدح والذم، قال: والمجبرة يعلمون ذلك لكن جحده علماؤهم ميلاً إلى الهوى وتعصباً للأسلاف وميلاً إلى الرئاسة وتقرباً إلى السلطان إلى آخر ما ذكره القرشي عنه في المنهاج.
قلت: لكن قوله: لأن العقلاء يعلمون بعقولهم حسن الأمر بها والنهي عنها إلى آخره، هو نفس الدليل على كونها منهم استدلالاً لا ضرورة وإلا لما احتاج إليه، فالأولى أن يقال: لأن كل عاقل يعلم من حال نفسه ضرورة أنه فاعل لفعله قبل أن يقرع سمعَه اختلاف المتكلمين في هذه المسألة وهذا أمر لا يناكر فيه أحد إلا مكابر.(1/389)


الأدلة العقلية على أن أفعال العباد منهم
وأما المؤلف عليه السلام فقد أتى في المختصر بما يدل على أن كون أفعال العباد منهم معلوم ضرورة وبما يدل على أن ذلك استدلالاً فقط:
فالأول قوله: [ كيف يأمرهم بفعل ما قد خَلَقَ وأمضى أو ينهاهم عن فعل ما قَدْ صَوَّرَ وقضى، ] فإن صدور مثل ذلك من أحد العقلاء من أمحل المحال وأقبح المقال وأسخف الفعال، ولو وقع لدل على أنه قد وقع في عقله اختلال، فكيف يصح من الحكيم العليم المتعال؟!
[ و ] الثاني: قوله: [ لأن الإنسان يلحقه حكم فعله من المدح والثَناء، والذم والاستهزاء، والثواب والجزاء، فكيف يكون ذلك من العلي الأعلى؟! ] وهذا أحد الأدلة التي يذكرها الأصحاب على أن أفعال العباد منهم لا من الله تعالى وتحريره ينبني على أصلين: أحدهما: أن الإنسان يلحقه حكم فعله من المدح والثناء الخ ما ذكره عليه السلام . والثاني: أنها لو كانت من الله تعالى لما وجبت فيها هذه القضية.
أما الأصل الأول: فهو معلوم ضرورة بلا نزاع ولا اختلاف.
وأما الأصل الثاني: وهو أنه لو كانت من الله تعالى لما صحت فيها هذه القضية.(1/390)

78 / 311
ع
En
A+
A-