بحث مفيد في أن الله تعالى لا يفعل الفساد ولا يريده من العباد
وبالجملة فكونه تعالى عدلاً حكيماً لا يفعل الفساد ولا يريده من العباد معلوم من الدين فمن أنكره فقد كفر بلا ريب ولا شبهة، ويقال لهم: إن لم يكن الله عدلاً حكيماً، فماذا يفعل هل يزداد فعله على ما نسبتموه إليه من أنه تعالى فعل الكفر في الكافرين وعاقبهم عليه ومع ذلك فهو ينهاهم عنه ويريده منهم ويقدره عليهم، ويكره منهم الإيمان وكلفهم به ولم يجعل لهم طاقة عليه، وفعل وأراد كل كذب وفجور في الخارج حتى أنكم تبالغون في نسبة ذلك إليه تعالى فتقولون: ما من كذب ولا ظلم ولا فجور ولا فسق ولا كفور إلا وهو خالقه وفاعله ومقدره ومريد له. ?قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ o الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ?{الذاريات:10-11} لقد استحوذ عليهم الشيطان كل الاستحواذ، فأنساهم ذكر الله واتخذهم له إخواناً وأعواناً، أي اتخاذ على إضلاله عباد الله تعالى حتى سهلوا للعاصين كل عسير وأطمعوا الظالمين في ترك عقابهم على الصغير والكبير حتى صار عندهم سِيَّان دخول الجنة أو النار أهل الكفر أو الإيمان فالكل جائز في عقولهم الضالة وأصولهم السافلة، ولا تنخدع أيها المسترشد إلى قولهم بعد ذلك لكن ورد السمع بأن المؤمنين في الجنة والكافرين في النار فنقطع بوقوعه نظراً إلى السمع لا إلى ما يجوزه العقل، لأن السمع الوارد على خلاف ما يجوزه العقل يجب تأويله وحمله على ما يوافق العقل اتفاقاً بين الجميع، ولأن السمع إنما يفيد القطع بأن مدلوله على ما تناوله اللفظ إذا لم يعرف المتكلم به بالكذب، فأما وقد عرفت المتكلم به أنه فاعل ومريد كل كذب في أَلْسِنَة الكذابين فهو أكذبهم، فلا ينتج القطع بصحة خبره بل غاية ما فيه صحة الأمرين على سواء، وفي ذلك رجوع إلى ما قضت به عقولهم الفاسدة وأصولهم الكاسدة من استواء الكافرين والمؤمنين والأنبياء عليهم السلام والفراعنة في تجويز مصير كل منهم إلى ما وعد به(1/381)
أو توعد به الآخر، وكيف يصحح قول أو اعتقاد بلغ بصحابه إلى ذلك المعتقد الخبيث، أم كيف يُرجع أصل أو اعتماد على هوس يسير إليه الكفر سيراً حثيثاً ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ?{النساء:82}، ?أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا?{محمد:24} ?سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ ? {الأنعام:148}، وإذا كان هذا الاعتقاد الفري والمقال الكفري قد حكاه الله عن المشركين وذمهم عليه هذا الذم الذي لا أبلغ منه ووبخهم وأذاقهم البأس ونفى عنهم العلم بصحته وقصرهم فيه على الخرص واتباع الظن، فهل يصح لمسلم أن يتابعهم في هذا الاعتقاد، أم هل يصح لمؤمن بالله ورسوله أن يقول على قواعد علم العربية والمنطق في ?لو? فيقول: تقديراً للمحذوف اختصاراً وانتصاراً وتتميماً لاستدلال المشركين لكنه شاء منا الشرك فأشركنا وشاء عبادتنا الأصنام فعبدناهم؟!(1/382)
وهذه المقدمة الاستثنائية هي عين مذهب المجبرة المدبرة فهم على آثارهم يهرعون ومن آجن ضلالهم يكرعون، ولما كانت الآية ونحوها آخذة من المجبرة بالمخنق، وكانت عقائدهم موافقة لعقيدة المشركين عن طبق تأولوها بتأويل ينبيء عن عقول سخيفة وأهواء بطغيانها أليفة فقالوا إنما ذمهم الله وأذاقهم البأس وكذبهم لأنهم قالوا ذلك بظاهر ألسنتهم من دون أن يعتقدوا ذلك ويجزموا به ويدينوا لله بثبوته، فهو كما قاله المنافقون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نشهد إنك لرسول الله. ورد عليهم ?وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ?{المنافقون:1}فالتكذيب راجع إلى كونهم لم يعتقدوا أنه رسول الله فيصح قولهم: نشهد. لا إلى اللفظ وهو قولهم: إنك لرسول الله. لأنه صدق في نفسه، فنزَّلوا هذه الآيات التي حكاها الله عن المشركين ? لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا?، ?لَوْ شَاءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ?{الزخرف:20}، وما في معناهما بمنزلة قول المنافقين: نشهد إنك لرسول الله.(1/383)
فتأمل رحمك الله تعسفهم وتلعبهم بآيات الله،وهل يستقيم هذا التأويل مع قوله تعالى: ? هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا?، لأنه لو كان ما قالوه صحيحاً ثابتاً في نفس الأمر وإنما كان كذبهم من حيث لم يعتقدوه على حسب ما نطقوا به لما صح أن يناقضهم مقتضاه ولكان يجب أولاً أن يقرر ظاهر اللفظ ثم يكذبهم حيث لم يعتقدوه كما في آية المنافقون: ?إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ?{المنافقون:1}، فقال عز من قائل مقرراً لمقتضى اللفظ: ?وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ?{المنافقون:1}، ثم قال: ?وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ?، فلولا أنه وَسَّط قوله: ?والله يعلم إنك لرسوله? لاستلزم تكذيب قولهم: ?إنك لرسول الله?. فكذلك كان يجب مثل ذلك في آيات المشيئة وكيف يصح هذا التأويل العجيب وقد قال تعالى بعد قولهم: ?لَوْ شَاءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ? فقال: ?مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ o أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ? {الزخرف:20،21}، في زعمهم أن الله شاء أن يعبدوا الأصنام فذرهم وما يفترون ودعهم في ضلالهم يمترون، ويقال لهم: قد حكى الله عن المشركين أنهم قالوا: ?وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ?{الأعراف:28}، إذا كان الله قد تنزه عن الأمر بالفحشاء فهو أن يتنزه عن فعلها أولى وأَحْرَى، لأن فاعل القبيح أدخل في استحقاق الذم والعقاب من الآمر به لذلك يقال: ليس الآمر مع وجود المباشر، ويقال لهم: قال تعالى: ?فَأَمَّا مَنْ طَغَى o وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا o فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى o وَأَمَّا مَنْ(1/384)
خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى o فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ?{النازعات:من37-41}، وقال تعالى: ?قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا o وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ?{الشمس:10،11}، هل كان تعالى فاعل هذه الأفعال؟ إذاً كان هو المراد بالمدح والذم، وكيف يتبعه الوعد والوعيد، أم العبد فاخرجوا عن مناقضه يا شر العبيد.
ولما فرغ من المسألة الأولى من مسائل العدل وهي: أن الله تعالى عدل حكيم، أخذ فيما يتفرع عليها من سائر مسائل الباب، وقُدمت على الجميع لأنها أم الباب فهي من جميع مسائل العدل بمنزلة مسألة: إثبات الصانع تعالى من جميع مسائل التوحيد، وقَدَّم بعدها مسألة: أن أفعال العباد منهم لا من الله تعالى، لأن ما بعدها مترتب عليها وفروع تنتمي إليها فقال عليه السلام :
I(1/385)