مسألة: الله سبحانه وتعالى لا يفعل القبيح وأفعاله كلها حسنة
ثم أخذ عليه السلام في تقرير أنه تعالى عدل حكيم بقوله [ فإنه تعالى لا يفعل القبيح ] كالظلم والكذب والعبث والسَّفَه وكالكفر والفُسُوق وسائر القبائح [ ولا يُخِلُّ بالواجب من جهة الحكمة، ] كإنصاف المظلوم ممن ظلمه، وإثابة الطائع، وعقاب العاصي المصر على العصيان، وإعواض الآلام، والبيان للمكلفين بما كلفوا به وتمكينهم منه، وهداية من استهداه عز وجل، وخلع رِبْقة العناد واتباع الهوى عن ربقته ونفسه.
اتفق أهل العدل على لزوم هذه المذكورة واستحقاقها عقلاً، وإن قال بعض البصرية بصحة إسقاط العقاب تفضلاً فهم لا يخالفون في استحقاقه بمعنى أنه لو فعله تعالى لكان مستحقاً غير مناف للعدل، واختلفوا في إطلاق الوجوب، فمنعهم بعض أئمتنا عليهم السلام منهم القاسم عليه السلام في الأساس قال عليه السلام ما لفظه: وما يفعله الله تعالى قطعاً لا يقال بأنه واجب عليه لإيهامه التكليف الخ ما ذكره، ومَنْ مَنَعَه فيقول يفعله قطعاً، قال شيخنا رحمه الله: وقد أطلقه علي عليه السلام وزيد بن علي والقاسم والهادي والحسين بن القاسم عليهم السلام وغيرهم، قيل: بل نتأدب من إطلاق اللفظ مع اتفاق جميع العدلية على أنه تعالى لو أخل بهذه المعدودة لكان غير عدل ولا حكيم، تعالى الله عن ذلك، ولا بد مع ما ذكر من أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب من أن يقال [ وأفعاله تعالى كلها حسنة. ] ليدخل في ذلك ما لم يتناوله قبح ولا وجوب كابتدائه خلق العالم وما يزيد فيه وما ينقص وتوسعة الأرزاق وقبضها وسائر ما لا يتصف بالوجوب من أفعاله تعالى.
ثم أخذ عليه السلام في الاستدلال على ثبوت المسألة من أصلها بقوله [ وإنما قلنا: إنه تعالى لا يفعل القبيح، لأنه ] أي فعل القبيح [ إنما يقع ] ويصدر [ ممن ] كان على أحد أحوال ثلاثة وإن اجتمعت فمن باب الأولى:(1/376)


أحدها: أن يكون [ جَهِل قُبْحَه، ] فإن جهل قبح القبيح مظنة فعله ولو قدرنا أنه غني عنها.
وثانيها: قوله [ أَوْدَعَتْه حاجة إلى فِعْلِه ] فإن من دعته حاجة إلى فعل القبيح كاد أن يفعله [ وإن عَلِمَ قُبْحَه، ].
وثالثها: أن يجهل استغناءه عنه كمن ينسى ماله أو يظن عدم وفائه بحاجته فيتناول مال غيره،
فهذه الثلاثة الأحوال لا تخرج فاعل القبيح عن أحدها وقد تجتمع كلها أو اثنين منها [ و ]لا يصح تقدير شيء منها على الله تعالى البتة، بل [ هو ] سبحانه وتعالى متنزه عن كل واحد منها على أبلغ الوجوه:
أما الأول: وهو تنزهه عن جهل القبيح.
فلأنه [ عالم بقبح القبائح، ] جميعها [ لأنها من جملة المعلومات ] التي لا تخفى على عاقل فكيف تخفى على من هو بكل شيء عليم؟‍ وإذا كانت القبائح من جملة المعلومات [ وهو تعالى عالم بجميعها كما تقدم، ] في مسألة عالم: أنه تعالى يعلم جميع المعلومات ولا يختص بمعلوم دون معلوم، ثبت أنه تعالى عالم بقبح القبيح ومتنزه عن الجهل به على أبلغ وجه، حيث لا يصح تقديره عليه تعالى بحال من الأحوال.
وأما الثاني: وهو تنزيهه تعالى عن الحاجة.
فلأنه تعالى [ غني عن فعلها ] أي القبائح وذلك [ كما تقدم أيضا، ] في مسألة غني: أنه تعالى غني عن كل شيء لا تصح عليه الحاجة إلى شيء من حسن أو قبيح.(1/377)


وأما الثالث: الذي ذكرناه في الشرح ولم يذكره عليه السلام في اللَّف اختصاراً واستغناءً بذكره في النشر بقوله [ وعالم باستغنائه عنها، ] أي عن أفعال القبائح لأن كونه تعالى غنياً عن فعلها هو أيضا من جملة المعلومات، فيجب أن يعلم أنه تعالى غني عن فعل القبائح، وهذه الجملة المذكورة في حكم المقدمة الصغرى والكبرى هي قوله [ وكل من كان بهذه الصفة فإنه لا يفعل القبيح، ] والنتيجة أن الله تعالى لا يفعل القبيح قوله: بهذه الصفة. أي الأحوال الثلاثة المذكورة من كونه تعالى عالما بقبح القبيح، غنيا عن فعله، وعالما باستغنائه عنه، فكل من اجتمع فيه هذه الأحوال الثلاثة فإنه لايفعل القبيح [ ألا ترى أن من مَلِكَ ألفي ألف قنطار من الذهب، فإنه لا يسرق الزائف، ] وهذا منه عليه السلام تمثيل وتقريب وإلا فملك الله عز وجل أوسع من أن يملك أحدنا ألفي ألف قنطار من الذهب، والقنطار وزنه فنعال، وقيل: لا وزن له في العربية، قاله شيخنا رحمه الله تعالى: وهو ألف ومائتي أوقية وقيل: أربعة آلاف وقيل: غير ذلك، والزائف بالزاي المعجمة وهو المطلي بالزئبق في الأصل وأريد به هنا الدرهم الردي، وإنما لم يسرقه [ لعلمه بقبح السرقة، وغنائه عن أخذ الزائف، ] على وجه السرقة [ وعلمه باستغنائه عنه، ] وهذا معلوم عند كل عاقل [ وكذلك لو قيل للعاقل: ] منا [ إن صدقت ] أي أخبرتنا بالصدق [ أعطيناك درهما، ] واحداً [ وإن كذبت أعطيناك درهماً، ] واحداً [ فإنه لا يختار الكذبَ - في هذه الحال- ] أي في حال استواء العطاء في حالتي الإخبار بالصدق والكذب، فإنه لا يختار الكذب [ على الصدق ] بل لا يخبر إلا بالصدق [ على وتيرةٍ ] الوتيرة: مأخوذة من الوتر وهو التتابع على صفة [ واحدة، ] فيكون خبره على سبيل الصدق مع استواء العطاء وتيرة واحدة لا تختلف [ وطريقة مستمرة، ] لما كان العطاء مستوياً سواء أخبر بالصدق أو الكذب.(1/378)


ويفهم من كلامه عليه السلام أن الكذب الذي فيه نفع قبحه شرعي فقط لا عقلي، وإنما المعلوم قبحه عقلاً هو ما لا نفع فيه، وفي ذلك خلاف بين المتكلمين، الأظهر أن قبح الجميع عقلي لأن المضرة لازمة لما فيه نفع ولما لا نفع فيه وهي استحقاق العقاب والذم، وإنما يرتفعان عنه خشية الضرر بذهاب النفس أو عضو منها، وهذه الخشية لا تخرج الكذب عن القبح كما لا تخرجه عن كونه كذباً لأن قبح الكذب لذاته أو مقتضى عن ذاته وخروج الموصوف عن صفة ذاته أو المقتضاة عنها لا يجوز بحال، وإنما جاز بإذن الشرع ارتكاب أحد القبيحين لدفع أعظمهما ضرراً كما جاز قتل التَّرَس المسلم عند خشية استئصال جند المسلمين، وكما جاز النطق بكلمة الكفر عند الإكراه المتوعد بالقتل مع القدرة على الإنفاذ، قال عليه السلام [ ولا عِلَّة لذلك ] أي لكونه لا يختار الصدق على الكذب [ إلا ما ذكرنا. ] من أن من كان عالماً بقبح القبيح مستغنياً عن فعله عالماً باستغنائه عنه فإنه لا يفعله.(1/379)


تنبيه: اقتصر المؤلف عليه السلام في الاستدلال على هذه المسألة بالعقل لأن دليل السمع متوقف صحة الاستدلال به على العلم بهذه المسألة، إذ لا يعلم صدق المتكلم حتى يعلم أنه عدل لا يكذب، ومن ثمة منع أصحابنا على المجبرة استدلالهم بالسمع ما داموا على الجبر لإضافتهم كل كذب في الخارج إليه تعالى فلا وثوق حينئذ بما تكلم به عز وجل في كتاب أو على لسان رسول، لكن لا بأس بالتبرك بذكر ما يقع به الاستظهار على هذه المسألة قال تعالى: ?مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ? {النساء:147}، ?لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ? {إبراهيم:7}، ?إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ? {النساء:40}، ?مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ? {ق:29}، ?وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ? {البقرة:205}، ?وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ? {الزمر:7}، ?كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ? {الإسراء:38}، ?لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ ? {آل عمران:195}.(1/380)

76 / 311
ع
En
A+
A-