وبعد فيقال لهم: هل يصح من الله تعالى ويحسن أن يبعث رسلاً يدعون إلى تكذيب الرسل الذين دعوا إلى الإيمان به وبكتبه واليوم الآخر والجنة والنار أم لا؟ إن قالوا: بالأول، فقد أحالوا وعطلوا وخرجوا عن الدين وجوزوا صدق قول الملحدين وجمعوا بين النقيضين للزوم صدق كل من الرسل، وإن قالوا: لا. نقضوا علتهم، فلا محيص لهم من القول بأن ذلك يقبح منه تعالى وإن كان غير منهي ولا مربوب ولا مملوك.
وإذ قد نجز غرضنا من الكلام فيما ينبني عليه العدل، فلنأخذ في تفصيل مسائله اللازم معرفتها.
I(1/371)
فصل في الكلام في أن الله تعالى عدل حكيم
قد مر الكلام على العدل، وأما الحكيم: فهو فعيل بمعنى مُفعِل - بكسر العين - وهو فاعل الحكمة قال تعالى: ?تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ? {الجاثية:2}، فهو بمعنى اسم الفاعل، ويأتي حكيم بمعنى مُحْكَم فهو بمعنى اسم المفعول فعيل بمعنى مُفْعَل قال تعالى: ?يس o وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ? {يس:1،2}، ومنه قوله:
وقَصِيْدَةٌ تَأْتِي المُلُوكَ حَكِيْمَةٌ .... قَدْ قُلْتُهَا لِيُقَالُ مَنْ ذَا قَالَهَا
وحقيقة الحكمة: كل فعل حسن لفاعله مقصد صحيح كقوله تعالى: ?اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ? {الجاثية:12}.
?وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ? {الأنعام:97}. ?كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ? {ص:29}.
وقد تطلق الحكمة على العلم كقوله تعالى: ?وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ?{البقرة:151} ?وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا?{ البقرة:269}.
والأفعال تنقسم بالنسبة إلى الإحكام والحكمة إلى أربعة أقسام:
حكمة وإحكام كالخط المتقن لنفاعة المؤمن.
وإحكام دون حكمة كالخط المتقن في مضرته.
ولا إحكام ولا حكمة كفعل الساهي والنائم والخط الذي لا يقرأ فيما لا نفع فيه.
وحكمة دون إحكام كالخط الذي لا يقرأ، المراد به قصد منفعة المؤمن لكن تعذر على فاعله إحكامه.
وحقيقة الإحكام: هو الإتقان للشيء حتى لا يتطرق إليه الخلل والفساد،وقيل: كل فعل عقيب فعل أو مع فعل على وجه لا يتأتى من كل قادر فتخرج الأفعال التي لا تنضم إليها غيرها، وما استوى إيقاعه على وجه واحد كتحريك اليد وتسكين ما هو متحرك ونحو ذلك فإن ذلك لا يتصف بالإحكام، لكنه إن فعل لغرض صحيح وصف بالحكمة وإلا فلا أيهما.(1/372)
قال عليه السلام [ فإن قيل ] لك أيها الطالب الرشاد [ أربك عدل حكيم؟ فقل: أَجَل، ] أي نعم، ولا خلاف أنه يوصف تعالى بأنه عدل حكيم بين كل من أقر بثبوت الصانع تعالى، والخلاف في ذلك لأهل الإلحاد، لكن ذهبت المجبرة إلى خلاف ذلك في المعنى حيث نسبوا إليه تعالى كل قبيح من أفعال العباد كالكفر والفسق والظلم والكذب وغير ذلك من القبائح وأنواع الفضائح، فلم يبق لوصفه تعالى بأنه عدل حكيم على قولهم إلا اللفظ دون المعنى، لما عرفت من أن العدل: هو من لا يفعل القبيح ولا يخل بما يجب من جهة الحكمة وأفعاله كلها حسنة، والحكيم: هو فاعل الحكمة.
فإذا كان تعالى على زعم هؤلاء القوم هو الفاعل لكل ما في الوجود من أنواع القبائح وأصناف الفضائح لم يبق من ذلك العدل والحكمة قليل ولا كثير، لأنه وإن فعل ما يقابل تلك القبائح من الإيمان والطاعات والصدق والعدل والإحسان في المؤمنين فإنه لا حكم بوجود هذه الأفعال الصالحات فيمن فعل تلك الأفعال المقبحات، ولهذا انعقد الإجماع أن الإيمان وسائر أعمال الطاعات لا تصح من الكافر لاستحالة صحة الاتصاف بصفة من الصفات مع نقيضتها. ولهذا قال في الأساس وشرحه: قالت العدلية: والله عدل حكيم لفظاً ومعنى.
وقالت المجبرة كافة: الله عدل حكيم لفظاً لا معنى.
وقال القرشي رحمه الله في المنهاج ما لفظه: ذهب أهل الحق إلى أنه تعالى عدل حكيم ولم يسمع عن أحد من أهل الجبر هذا القول، ولا ذكرت هذه المسألة في شيء من كتبهم الكلامية، وإن كانوا لو سئلوا عن ذلك لما وسعهم إنكاره.(1/373)
قلت: أما حكيم فقد وجد في كتبهم بمعنى متقن من الإحكام لا من الحكمة فهم يبالغون في نفيها عن الله لزعمهم أن في إثباتها إثبات الغرض وهو الفعل للمصلحة، ولا مصلحة لله لأنه غني، ولا للعبد في الدنيا لأن في التكليف عليه مشقة، ولا في الآخرة لأنه قادر على إيصال الثواب إليه بلا تكليف فلا مصلحة حينئذ في التكليف ولا حكمة فيه،ونحن نقول لهم: هذا مبني على أن فعل الطاعات وترك المعاصي ليس فيه أداء شكر المنعم، ومبني على أن شكر المنعم لا يجب، ومبني على أنه يصح الإبتداء بالثواب وفعله لمن لا يستحقه، والكل غير مُسَلَّم كما سيأتي تقرير كل من ذلك في موضعه.
سؤال: يقال قد وجد وصفه تعالى في القرآن بالحكيم وتسميته تعالى بهذا الاسم الشريف بما لا مزيد عليه، فأما وصفه تعالى وتسميته بالعدل، فَلِمْ لا يوجد في القرآن مع أنه من أجل الأسماء وأعظمها وأشرفها بلا تناكر، فما الجواب على ذلك وما هو السر والنكتة في عدم ذكره ووروده في القرآن كالحكيم؟(1/374)
والجواب وبالله التوفيق: أما كونه لم يذكر بلفظه في القرآن، فلأنه لما كان معناه أنه لا يفعل القبيح ولا يخل بما يجب من جهة الحكمة، وقد ذكر سبحانه اتصافه تعالى بهذين المعنيين في الكتاب بما لا مزيد عليه استغنى عن ذكر لفظه كما استغنى عن ذكر كونه تعالى موجوداً وكونه قديماً للعلم الضروري المقتَضَى عن كونه خالقاً قادراً عالماً حياً غير محدَث، وأما السر والنكتة في عدم ذكر لفظ هذا الاسم الكريم والاستغناء عن ذكره بما ذكر من معناه المراد وهو أنه لا يفعل القبيح ولا يخل بما يجب من جهة الحكمة، فلأن لفظ العدل لما كان في أصل اللغة من أسماء الأضداد كما ذكرنا في أول الباب يطلق تارة على الإحسان والإنصاف، وتارة على الجور والميل، حسن عدم ذكر اللفظ بذاته لاشتراكه بين المعنيين المذكورين سيما إذا علم الله سبحانه أن أهل الزيغ والضلال يجعلون ذلك طريقاً إلى القدح في القرآن وذريعة إلى جواز أن الله يفعل القبيح، فهذا ما ظهر، والله أعلم.(1/375)