فهذا تحقيق أقوال العدلية بما لأجله يحسن الفعل أو يقبح، وأما تحقيق أقوال من خالفهم فقد مر في إطلاق الرواية من كثير من الأصحاب عنهم أن الأشعرية يقولون: إنما يقبح الفعل للنهي عنه ويحسن لتعريه عن النهي. والجهمية: لكون الفاعل مربوباً مملوكاً. وهذا الإطلاق لا يخلو عن نظر وتسامح لأنه قد حكى في الأساس موافقتهم على إدراك الحسن والقبح باعتبار الملاءمة والمنافرة وباعتبار صفة الكمال وصفة النقص، وحكى عن بعضهم الموافقة فيما تعلق به المدح والثواب والذم والعقاب، فلم يبق موضع لما يجعل هاهنا محلاً للنزاع إلا ما خرج عما ذكر كما تؤدي ذلك عبارة الغاية وشرحها في قوله عليه السلام: مسألة: اختلف فيما لا يدرك فيه لخصوصه جهة محسنة له أو جهة مقبحة على أقوال ثلاثة:
أولها: الإباحة: وهو لأئمتنا والجمهور رضي الله عنهم.
وثانيها: الحظر: وهو لبعض من الإمامية والبغدادية والفقهاء ولا يبيحه إلا الشرع.
وثالثها: الوقف: وهو رأي الأشعرية وأبي بكر الصيرفي وبعض الشافعية بمعنى لا يُدرى هل هناك حكم أو لا، وهل الحكم المفروض حظر أو إباحة؟.
فعرفت أن ليس النزاع فيما قد أدرك العقل له جهة محسنة أو مقبحة، وإنما النزاع فيما لم يكن قد أدرك فيه أي الجهتين، وقد تعقب سيدي العلامة الحسن بن أحمد الجلال رحمه الله تعالى في حاشية على القلائد لقوله: لكن ينبغي أن يحرر محل النزاع حتى تتوارد الأدلة على محل واحد وإلا فلا فائدة في الخبط بالأقوال، ثم ساق الكلام في حكاية المذاهب حتى حكى مذهب الأشعرية بقوله: قال عضد الدين اللائحي وهو محققهم وإمامهم ومن لا يمشي في غير أثرة أقدامهم ما لفظه: أما الحاكم فهو عندنا: الشرع دون العقل ولا نعني أن العقل لا حكم له في شيء أصلاً، بل أنه يحكم بأن الفعل حَسُنَ أو قَبُحَ في حكم الله المتعلق بأفعال المكلفين، وإنَّ الحُسن والقبح إنما يطلقان لثلاثة أمور إضافية لا ذاتية:(1/366)


الأول: لموافقته الغرض ومخالفته وليس ذاتياً لاختلافه باختلاف الأغراض.
الثاني: ما أمر الشارع بالثناء على فاعله أو الذم له وليس ذاتياً، إذ يختلف باختلاف الأحوال والأزمان.
الثالث: مالا حرج في فعله وما فيه حرج وليس ذاتيا كما ذكرناه آنفا انتهى.
قال رحمه الله تعالى: قلت: وقد ترك وجها صرح الرازي وغيره من متكلمي الأشعرية بإدراك العقل له: وهو كون الفعل صفة كمال كالعلم والصدق، أو صفة نقص كالجهل والكذب، وقد ذكر الزركشي في شرحه لكتاب السبكي جمع الجوامع أن قوما توسطوا فقالوا: إن العقل يدرك استحقاق المدح والذم، وأما استحقاق الثواب والعقاب فمتوقف على الشرع. قال: وهو الذي ذكره سعد بن علي الزنجاني من أصحابنا يعني الشافعية وأبو الخطاب من الحنابلة والمردي عن أبي حنيفة قال: وهو المنصور لقوته من حيث الفطرة وآيات القرآن المجيد انتهى.
وبهذا يعلم صحة ما قلناه من التنظير والتسامح في إطلاق الرواية والحكاية عن الأشعرية، وأنه ليس النزاع فيما قد أدرك العقل فيه جهة معينة لحكم الله في فعل المكلف بحسن أو قبح حسب الثلاثة الأمور المذكورة في كلام العضد وما ذكره عن الرازي، وأن النزاع ليس إلا فيما عداها، الأشعرية: الوقف، البغدادية: الحظر، أصحابنا: الإباحة.
وحينئذ فينبغي تفريع المسألة المقصودة بالذات لدى فريقي العدلية والأشعرية ومن وافقهم، وهي خلق الله تعالى لفعل العبد كما تقول الأشعرية والجهمية، أو لا كما تقول العدلية وتنزيلها وتطبيقها على ما قد علم من وجوه التحسين والتقبيح المتفق عليها والمختلف فيه مع إقامة دليله، ويتم المقصود بثلاثة مطالب:(1/367)


المطلب الأول: يكون الكلام فيه باعتبار ما قد اتفق عليه ممن وافقنا منهم وهو أن يقال: إذا قد أدركت العقول حسن الشيء وقبحه اعتبار صفة الكمال وصفة النقص وبالثلاثة التي ذكرها العضد، فقد ثبت التحسين والتقبيح في أفعال الله المتعلقة بأفعال المكلفين، لأن خلقه الكفر والفسق وأنواع المعاصي في العبد وذمه وعقابه عليها صفة نقص وأي نقص، وخلقه القدرة الصالحة للإيمان مع الأمر به وللكفر مع النهي عنه والمدح والثواب على الإيمان، والذم والعقاب على الكفر صفة كمال وأي كمال هذا بالنظر إلى ما ذكره الرازي وسلمه من ثبوت التحسين والتقبيح، وأما باعتبار ما ذكره العضد وسلم أن العقل يدرك حسن الفعل وقبحه بتلك الثلاثة الاعتبارات، وهو كون الفعل موافق الغرض أو مخالفه، وكونه مما أمر الشارع بالثناء على فاعله أو الذم، وكونه مما لا حرج في فعله أو فيه حرج، فكل من هذه الثلاثة يلزم معه قبح خلق الكفر في العبد وذمه وعقابه عليه، لأن ذلك مخالف الغرض ببعثه الرسل بالأوامر بالطاعات والنهي عن المعاصي، وورد الشرع بذم فاعل الكفر ونحوه، ولزمه الجرح وهو الذم والتشنيع على من أوجده، وعدم خلق الكفر والإيمان مع خلق القدرة الصالحة لهما على سبيل البدل: ?فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ? {الكهف:29}، موافقٌ للغرض من إرسال الرسل بالتبشير والتحذير ومما ورد الشرع بمدح فاعله ولا حرج في فعله، فلزم وثبت وتقرر مما قد سلموا فيه ثبوت التحسين والتقبيح بطلان القول بخلق أفعال العباد على كل الوجوه الأربعة التي قد سلموها، ثم لا يضرنا إنكارهم ما عداها.(1/368)


المطلب الثاني: يكون الكلام فيه باعتبار من أصر منهم على إنكار أن العقل يدرك حسن الشيء أو قبحه فيما يتعلق بأفعال الله تعالى المتعلقة بأفعال المكلفين وهو أن يقال لاشك أن للعدل مزية على الجور والظلم، وللصدق مزية على الكذب، وللفعل الواقع لغرض صحيح مزية على العبث الذي لا غرض في فعله البتة، ولشكر النعمة مزية على كفرها وجحدها، وهذا إن سلموه وافقوا قضية العقل ولزمهم القول: بأن الله تعالى لا يخلق أفعال العباد. مع أنها مشتملة على الكفر والظلم والجور والعبث والكذب والفجور، وأن الواجب بقضية العقل إنما هو التمكين من الفعل والترك وتعليق المدح والثواب بفعل الطاعة والذم والعقاب بفعل المعصية، وإن لم يسلموه خرجوا عن دائرة العقلاء لأنهم قاطبة متفقون على ثبوت المزايا والفروق بين العدل والإنصاف والصدق والكذب وفعل الحكمة وشكر النعمة على أضدادها المذكورة، ألا ترى أن الصبيان والمجانين إنما خرجوا عن دائرة العقلاء لعدم إدراكهم لتلك المزايا والفروق بين تلك المذكورة وأمثالها، وهذا هو الحق كما ترى، وماذا بعد الحق إلا الضلال بلا امتراء.(1/369)


المطلب الثالث: يكون الكلام معهم الجميع بالنظر إلى ما أصلوه وفرعوه الجميع من خلق الأفعال على أن الله تعالى غير منهي عند الأشعرية أو غير مربوب ولا مملوك عند غيرهم، وبالنظر إلى ما أصله العدلية وفرعوه من القول: بعدم خلق الأفعال على أن الله تعالى لو خلقها فيهم ثم عذبهم وذمهم عليها ونهاهم عنها على أَلْسِنَة الرسل أو أثابهم ومدحهم وأمرهم لكان قبيحاً، فيجب أن ينزه عن ذلك، فإذا تأملت النتيجة المطلوبة لكل أحد من فريقي العدلية والجبرية وجدت النتيجة المطلوبة لأهل العدل لازمة الأصل الذي أصلوه وقرروه من التحسين والتقبيح، ووجدت النتيجة المطلوبة لأهل الجبر غير لازمة الأصل الذي أصلوه مع كونهم لم يقرروه بل نقضوه كما سترى، لأن غاية ذلك الأصل الذي أصله المجبرة أن يخلق أفعال العباد وصحة أن لا يخلقها لأن كونه غير منهي ولا مملوك يستلزم صحة الأمرين ولا يستلزم ما ذهبوا إليه صحة الأمرين، ولا يستلزم ما ذهبوا إليه بعينه بل على سبيل التخيير، ولا كذلك يلزم مما أصله أهل العدل، لأنه تناول أن لا يخلق أفعال العباد بعينه وخصوصه، وإنما قلنا: إنهم لم يقرروه بل نقضوه. أما كونهم لم يقرروه، فلأنهم لم يقيموا عليه دليلاً،وأما كونهم نقضوه، فلأنهم لا يجعلون النهي علة مطردة وإلا لزم قبح كل ما نُهي عنه الكفرة والظلمة من الإيمان والعدل لوجود العلة وهي النهي، ومما نقضوه به أنهم قالوا: لا يصح من الله تعالى أن يظهر المعجز على يد من يدعي النبوة كاذباً مع أنه تعالى غير منهي، فتأمل تهافت كلامهم وتدبر تناقض أفهامهم.(1/370)

74 / 311
ع
En
A+
A-