أما الداعي: فلأن حقيقته هو ما لأجله يختار العالم به فعل ما يعلم فيه أو يظن حكمة أو حصول منفعة، فالأول يقال له داعي حكمة، والثاني داعي حاجة وهو لا يصح على الله، وإنما يصح عليه تعالى داعي الحكمة المعلومة له تعالى، فأما المظنونة وداعي الحاجة فخاص بالعبد.
وأما الشرط: فلأن حقيقته ما يتوقف صحة تأثير غيره أو صفة غيره عليه، فالأول كالقدرة والعلم والحياة فأنه يتوقف تأثير غيرها وهو العبد بأفعاله على حصولهما، والثاني كالقدرة والعلم والحياة في توقف حسن التكليف والمجازاة والمدح والذم على حصولها، وقبح ذلك مع عدم حصولها، ولكون قسر العبد على الفعل وخلقه فيه وصرفه عنه ينافي التكليف بالفعل الاختياري المتوقف حسن الإرسال والمجازاة عليه، لزم امتناع الجبر على الفعل وخلقه فيه والصرف عنه ضرورة انتفاء النقيض عند حصول نقيضه، وقد علمنا حصول الحسن في الإرسال والمجازاة للإجماع على ذلك مع ما ذكر من الدلالة العقلية عليه، فلنعلم حصول شرط وجود الحسن وهو كون العبد فاعلاً لفعله بالاختيار ويعلم انتفاء المنافي لذلك الشرط وهو الجبر وخلق الفعل والصرف عنه، ومن ثمة ترى الأشاعرة يفرون من القول بالجبر لعلمهم منافاته التكليف ثم يدخلون فيه من الباب الذي يلي ما فروا منه من الجبر فيقولون لم يجبر الله العبد على الفعل كما تقوله الجهمية، فذلك باطل لا يصح، ولكنه تعالى خلق الفعل في العبد والعبد كَسَبَه، فأي فرق بين هذا وبين قول الجهمي إذا قال لهم: نعم إن الله خلق الفعل في العبد ولا نعرف للكسب الذي تدعونه معنىً، لأنه أن كان المرجع به إلى إيجاد عين الفعل وذاته من العبد، فأين موضع الخلق الذي من الله تعالى؟ وإن كان المرجع بالخلق إلى إيجاد عين الفعل وذاته من الله تعالى، فأين موضع الكسب من العبد؟ فليس للكسب معنى يعقل سوى أنه تصحيف الكذب في اللفظ ومرادفه في المعنى، وسيأتي مزيد تحقيق إن شاء الله لإبطاله في موضعه.(1/361)


في حسن الفعل أو قبحه
وأما الطرف الثالث: وهو في بيان الوجوه التي لأجل يحسن الفعل أو يقبح.
فاعلم أولاً أنه ربما يتوهم متوهم أنه لا فرق بين هذا الطرف وبين الذي قبله إلا في العبارة وأن المعنى واحد، وليس كذلك بل منزلة هذا الطرف من الذي قبله منزلة المدرك من المدرك به وبمنزلة التفصيل بعد الإبهام، وعليه تتوقف القاعدة التي يكون عليها أُسّ العدل أو الجبر، ولهذا ذكر في الأساس الطرفين معاً، الأول في المقدمة عقيب ذكر العمل، والثاني في أول كتاب العدل، وفي والقلائد، ومنهاج القرشي، وكثير من مؤلفات الأصحاب يستكفي بالثاني ويدمج ما يلزم معرفته من الأول فيه، ولا غنية لمن أراد التحقيق والعض على المسألة بنواجذ التدقيق من معرفة الطرفين لتحصيل النتيجة المطلوبة على التنسيق وتتفرع صحتها على حسب تلك الاعتبارات بالتطبيق.
فنقول وبالله التوفيق: قال أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم من الزيدية وجمهور البصرية: ولا يقبح الفعل إلا لوقوعه على وجه من كونه ظلماً أو كذباً أو عبثاً أو سفهاً أو جهلاً وما يرجع إلى ذلك كتعظيم من لا يستحق التعظيم، فإنه يرجع إلى العبث والسفه والإخلال بشكر المنعم فإنه يرجع إلى الجهل والسَّفَه ويحسن إذا عُرِّيَ عن ذلك.
وحقيقة الظلم: هو الضرر العاري عن جلب نفع أو دفع ضرر زائد عليه أو استحقاق بسبب سابق من جهة المضرور، قلنا: هو الضرر. جنس الحد، وقلنا: العاري عن جلب نفع أو دفع ضرر زائد عليه. يحترز به عما إذا وقع الضرر لجلب نفع أَزْيد كضرر السفر لطلب الربح في التجارة ونحوه،وكضرر الفصد ونحوه لدفع ما هو أضر بالبدن منه فإن ذلك حسن، ويكفي في حسن ذلك ظن حصول النفع الأكثر وظن دفع الضرر الأكثر، وقلنا: أو استحقاق الخ. ليخرج الضرر الحاصل بالقصاص ونحوه مما هو مستحق على المضرور فإنه ليس بظلم.
وحقيقة الكَذِب: الخبر الذي لا يكون مخبره مطابقاً له.(1/362)


وحقيقة العَبَث: هو الفعل الواقع من العالم به عارياً عن غرض صحيح كنقل الماء من بئر وإرجاعه إليها، ونقل الحجارة من موضع وإرجاعه إليه.
وحقيقة السَّفَه: هو ضد الحلم والتخلق بالرذائل ككثرة المزح والخلاعة وكشف العورات والبول في الأزقة المسلوكة ونحو ذلك، واشترط الشيخان أبو علي وأبو هاشم في قبح الظلم صدوره من العالم به مع القصد له، والأكثر أن ذلك شرط لاستحقاق العقاب لا لحصول ماهية الظلم فقد حصلت مهما كملت القيود المذكورة، قيل: واشتراطهما ذلك هو في جميع ما ذكر. ذلك بعيد عن الصحة للزوم عدم قبح الكذب من الكفار الذين لا يعلمون كذبه بصدوره عن شبهة أو تَلَقٍّ من الأسلاف، فالأظهر أن يقال: اشترطوا العلم بقبح ذلك أو ما يقوم مقام العلم وهو التمكن منه بالنظر الصحيح والانقياد لمن دعى إليه ورفض هوى النفس وتقليد الأسلاف الماضين عليه، وسواء جعلنا ذلك شرطاً في القبح أو في استحقاق الذم والعقاب، فلا يخرج من هذا إلا ما صدر من الصبي أو المجنون أو الساهي، وأما القصد فلا يسلم اشتراطه إن رجع الضمير إلى الظلم لأن أكثر الظلمة يفعل الظلم غير قاصد للظلم ويتعللون بشبه وأوهام يظنون معها أنهم غير ظالمين، وكمن ذبح غيره مريداً معرفة حد شفرته غير مريد ظلم المذبوح، فلو جعلنا قصد الظلم شرطاً لخرجت هذه عن كونها ظلماً والمعلوم بطلانه، وإن رجع الضمير إلى نفس الفعل فلا يخرج عنه إلا الساهي لكنه قد خرج بالقيد الأول وهو اشتراط العلم به إذ لا علم للساهي بما فعله سهواً حال فعله،وقالت البغدادية من المعتزلة: بل يقبح الفعل لعينه. ولا يخفى أنهم إن أرادوا مطلق الفعل فلا يسلم للزوم قبح جميع الأفعال، وإن أرادوا الفعل الذي هو ظلم أو نحوه مما ذكر لم يظهر الفرق بينه وبين ما قبله إلا في العبارة، وقالت الإخشيدية من المعتزلة أيضاً: بل يقبح الفعل للإرادة. ويرد على هذا ما ورد على ما قبله ويزداد بأن يقال: يعلم قبح الظلم والكذب ونحوهما من(1/363)


لا يعلم إرادة فاعلهما.
وبعد فإن الإرادة تكون قبيحة لقبح المراد كالإرادة للزنا والقتل فلو قبح الفعل لقبح الإرادة للزم الدور.
قيل: وقول الإخشيدية يرجع في المعنى إلى ما قاله الشيخان من: أن شرط القبح صدوره مع القصد من العالِم لأن الإرادة هي القصد في الشاهد.
وأجيب عليه: بأنه غير مسلم، لأن الشيخين يعللان القبح بما ذكر من الوجوه المذكورة في صدر المسألة ويجعلان القصد شرطاً فقط، والإخشيدية يعللون القبح بنفس القصد وهو الإرادة فافترقا ولا ثمرة للخلاف إلا لو لم تعتبر الإخشيدية تلك الوجوه بالمرة، ومن البعيد أن يلغوها عن الإشتراط إن لم يعتبروها في التأثير فصار قول العدلية آيلٌ إلى معنى واحد،وهو إناطة القبح بتلك الوجوه تأثيراً في قول وشرطاً في آخر، لكنه حكى في الأساس عن البغدادية وبعض الإمامية أنهم يقولون: الأصل في مطلق الأفعال الحصر. فإن أرادوا بذلك ما عدا ما قد أدرك العقل فيه جهة حسن أو قبح بخصوصه كما هو مفاد عبارة غاية ابن الإمام عليهما السلام، فهو لا ينافي تعليل ما قد أدرك قبحه بما هو من الوجوه المذكورة، وإن أرادوا أن حكم الأفعال من حيث هي الحظر والقبح كما يقتضيه ظاهر الاطلاق عنه، فهو بعيد جدا لما ذكرنا من لزومه تقبيح جميع الأفعال حتى العدل والإنصاف قبل ورود الشرع حتى يرد الإذن الشرعي والتعيين من الشارع لما هو قبيح أو حسن، فهو أدخل في البطلان من قول الأشعرية لأنهم قد سلموا حُسن ما لاءم وقُبح ما نافر، وحسن ما كان صفة كمال، وقبح ما كان صفة نقص، ويقولون في ما لا يدرك العقل فيه جهة حسن ولا قبح: بالوقف حتى يرد الشرع بتعيين حكمه، والجمهور من العلماء وعليه اتفاق أئمتنا عليهم السلام أن الأصل فيما لم يكن قد أدرك العقل جهة حسن ولا قبح بخصوصه بأحد الاعتبارات المذكورة في الطرف الثاني الذي مر قبل هذا الإباحة، ولهذا استدرك شارح الأساس الإمام الشرفي عليه السلام على إطلاق عبارة الماتن قدس الله روحه(1/364)


بما لفظه: وقد عرفت بما تقدم أن كلام البغدادية إنما هو في مطلق الأفعال التي ليس لها جهة حسن ولا قبح ظاهرين كما مر، لأنهم لا يخالفون أن ابتداء الإحسان وصنائع المعروف حسنة يحسن العقل من غير نظر إلى إذن الشرع وإباحته انتهى كلامه والمسك ختامة.
ولعل الماتن عليه السلام حذا في إطلاق العبارة عن البغدادية حذو القرشي رحمه الله في المنهاج والإمام المهدي عليه السلام في القلائد فإنهما أطلقا الحكاية عن البغدادية بالنظر إلى أصل الفعل من حيث هو، ولهذا ردَا عليهم بقولهما: قلنا: يقبح الفعل ويحسن والعين واحدة كالسجود للصنم فإنه بذاته وعينه إذا فعل لله فهو حسن.
قلت: وفي ذلك نظر فإن السجود للصنم لم يصر للصنم إلا مع قصد فعله له فالقصد حينئذ شطر أو شرط، ثم تقدير كونه لله تعالى لا يستقيم إلا مع قصد فعله لله تعالى، فمتى فعل لله بقصده المنافي لقصد فعله للصنم كما فعل لله غير ما فعل للصنم سيما على أصلهما في إثبات الذوات في العدم، وإنما مثلا بهذا المثال لما حملا كلام البغداديين على ظاهر ما حكياه عنهم من الإطلاق مع أنهم إلى الوفاق أقرب من البصرية في كثير من الأصول والمسائل على قواعد قدماء أئمتنا عليهم السلام وشيعتهم الأعلام، ولله در ابن الإمام فلقد أدرك من المسألة سر الكلام.(1/365)

73 / 311
ع
En
A+
A-