في إدراك العقل حُسْن الشيء أو قُبْحُه
وأما الطرف الثاني: فاعلم أنه قد وقع الاتفاق على رواية الأساس وشرحه بين العدلية والأشعرية وغيرهم: أن العقل يستقل بإدراك حسن الشيء أو قبحه باعتبارين:
أحدهما: كونه صفة كمال فيدرك العقل حسنه كالعلم والكرم ومكارم الأخلاق، أو صفة نقص فيدرك قبحه كالجهل والشح المفرط ومساوئ الأخلاق.
والثاني:كونه ملائماً للطبع فيدرك حسنه كالملاذ، أو منافر له فيدرك قبحه كالمضار، فهذان الاعتباران لا نزاع أن العقل يستقل بإدراك الحسن والقبح بالنظر إليهما، وبقي ثلاثة اعتبارات حصل فيها الاختلاف:
أحدها: كون الفعل متعلقاً للمدح والثواب عاجلين فيدرك العقل حسنه، أو الذم والعقاب كذلك عاجلين فيدرك قبحه.
وثانيها: كونه متعلقاً للمدح عاجلاً والثواب آجلاً فيدرك حسنه، أو متعلقاً للذم عاجلاً والعقاب آجلاً فيدرك قبحه.
وثالثها: كونه غير متعلق لأي الأربعة المذكورة التي هي المدح، والذم، والثواب، والعقاب، بأن كان الفعل لا مدح ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب في فعله ولا تركه عاجلاً ولا آجلاً وذلك كالمباحات.
فحكى في الأساس عن أئمتنا عليهم السلام والمعتزلة: أن العقل يستقل بإدراك الحسن والقبح في الأولين وأن الثالث من الحسن، والخلاف في هذه الثلاثة مع الأشعرية إلا اليسير منهم فوافق في الأول منها.
فهذا تفصيل القول بالنظر إلى الاتفاق فيما اتفق عليه والاختلاف فيما اختلف منه، ولكنه كما ترى لم يبين فيه هل المراد إدراك الحُسن والقُبح من حيث هما أم مع النظر إلى جهة الفاعل الذي يتعلق الحسن والقبح بفعله فيفترق الحال أو لا يفترق بين الخالق والمخلوق؟ والأظهر أن الكلام مبني على أن العقل يدرك الحسن والقبح بما ذكر من الاعتبارات المذكورة على الجملة، فيحتاج بعد ذلك إلى تفصيل حتى يعلم كيفية انبناء العدل والجبر على ذلك.
فأقول وبالله أصول: اعلم أولاً أن أفعال الله سبحانه وتعالى على ثلاثة أضرب:(1/356)
الضرب الأول: خلقه تعالى للعالم الذي هو السماوات والأرض وما فيهما من الملائكة والثقلين وجميع الحيوانات والنباتات والشمس والقمر والنجوم وسائر أصناف العالم.
الضرب الثاني: إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وتشريع الشرائع على الخمسة الأحكام المعروفة الوجوب، والندب، والحرمة، والكراهة، والإباحة.
الضرب الثالث: ما يتعلق بالمعاد من الحشر والمجازاة بالثواب والعقاب ونحوه كالمدح، والذم، والتعظيم، والإهانة.
فأما الضرب الأول: فلا يتطرق إليه الاختلاف ولا معنى له بين فريقي العدلية والجبرية، إذ لا مخالف من الجميع أن ذلك حسن لا قبح فيه أصلاً، لكن ينظر إلى أي الاعتبارات الخمسة المذكورة يرجع، فإذا نظرنا إلى أيها أقرب وأنسب لم نجد منها سوى الأول وهو ما إذا كان صفة كمال فيستقل العقل بإدراك حسنه، لكنه يشكل عليه أنه إذا كان خلق العالم حسناً لكونه صفة كمال كان عدم خلق العالم قبيحاً لكونه صفة نقص من حيث أنه يجب للنقيض نقيض الحكم، فيلزم أن يكون تعالى بصفة النقص قبل خلق العالم، تعالى عن ذلك.
فيجاب على هذا الإشكال: بأن الكمال إنما هو لازم خلق العالم وهو اتصافه تعالى بكونه قادراً عالماً وذلك ثابت في الأزل، بدليل أنه لو صدر عنه تعالى العالم على حسب العلة والمعلول كما تقول الفلاسفة، لما كان في ذلك كمال ولا حسن كما هو شأن المؤثرات على سبيل الإيجاب.(1/357)
وأما الضرب الثاني: فلم يقع فيه اختلاف في حسنه، ولا يحكى في ذلك خلاف إلا عن البراهمة القائلين بنفي النبوات رأساً، وينظر إلى أي الاعتبارات الخمسة يرجع، فإذا نظرنا إلى أيها أقرب وأنسب لم نجد منها سوى الأول أيضاً وهو: أنه صفة كمال. لأن نقيضه وهو إهمال الخلق صفة نقص، وإن علموا ما علموا من جهة العقل فكثير من المصالح والمفاسد المتعلقة بأفعالهم وتروكاتهم لا تعلم إلا بالشرع ولا مجال للعقل فيها، فتركهم مع القدرة والعلم بالعلاج إهمال قبيح، فمن ثمة وجبت النبوة لما فيها من الألطاف وتوقف أداء الشكر عليها، ولا يرد هاهنا ما ورد في الذي قبله من لزوم صفة النقص المقتضية للقبح في الأزل فيحتاج إلى التأويل المذكور، لأن الإهمال المستلزم القبح إنما يتصور بعد وجود الخلق ولا معنى له في الأزل بخلاف الأول، فالإشكال ناشٍ عن عدم الخلق فلزم النقص في الأزل، فاحتيج إلى التأويل المذكور.(1/358)
وأما الضرب الثالث: وهو ما يتعلق بالمعاد من الحشر والمجازاة بالثواب والعقاب والمدح والذم والتعظيم والإهانة، فلا خلاف أيضاً بين جميع المسلمين وكثير من الفرق الكفرية في حسنه ووقوعه، والخلاف في ذلك لبعض الملل الكفرية الجاهلية المكذبين بالدار الآخرة، وينظر إلى أي الاعتبارات الخمسة، فإذا نظرنا إلى أيها أقرب وأنسب لم نجد منها سوى الأول أيضاً وهو: أنه صفة كمال. فيكون تركه صفة نقص، تعالى الله عن ذلك، وهو كالذي قبله في عدم لزوم النقص قبل إيجاده لأن لزومه متفرع على المتفرع على وجود الخلق وهو التكليف، وإنما أرجعنا الثلاثة الأضرب إلى الاعتبار الأول فقط لأنه لا معنى للثلاثة المتوسطة في حقه تعالى لاستحالة الملاءمة والمنافرة والثواب والعقاب في حقه تعالى، ولأن الرابع وهو الخامس مما مر ذكره مبناه على نفي الأربعة الاعتبارات فلو أرجعناه إليه للزم التناقض وهو ثبوت صفة الكمال ونفيها، فلا يصح إرجاع أفعاله تعالى إليه لما قد علم من ثبوت صفات الكمال في الثلاثة الأضرب، هذا ولا يخفاك أنه نقص في التقسيم إلى الاعتبارات الخمسة المذكورة قسم سادس يمكن أن يجعل اعتباراً برأسه وهو كون الفعل متعلقاً للمدح فقط عاجلاً أو آجلاً أو الذم فقط كذلك فيدرك حسنه أو قبحه، ولعل أن الإمام عليه السلام تركه لدخوله في صفة الكمال وصفة النقص، ويمكن إرجاع بعض أفعاله تعالى إلى هذا الاعتبار وذلك فيما يتعلق بالخلق من التكليف والجزاء والتخلية والتناصف ونحو ذلك، ويمكن استخراج اعتبار سابع وهو كون الفعل متعلقاً للثواب فقط عاجلاً أو آجلاً أو العقاب فقط عاجلاً أو آجلاً فيدرك حسنه أو قبحه، ولعل الإمام عليه السلام تركه لدخوله في الملائم والمنافر أو لأنه يلزم مع الإثابة المدح ومع العقاب الذم فيدخل في الثالث والرابع.(1/359)
نعم وإذا عرفت أن الضربين الأخيرين من أفعاله تعالى إنما يتصور وجودهما وحسنهما بعد وجود المكلفين من الملائكة والجن والإنس، بل بعد وقوع التكليف العقلي في الضرب الثاني، ومطلقاً في الثالث، علمت أن الجبر على الفعل وخلقه في العبد أو صرفه عنه ينافي التكليف المتوقف وجود هذين الضربين وحسنهما عليه وهو متوقف على كون العبد فاعلاً لفعله باختياره، وعلمت أن كون العبد فاعلاً لفعله باختياره داع إلى وجودهما وشرط في حسنهما، وإنما قلنا: إنه داع وشرط، ولم نجعله علة ولا مقتضياً ولا سبباً لوجودهما وحسنهما، لأن الارتباطات بين الأثر والمؤثر لا تعدو هذه الخمسة، حيث لم تكن من باب الفاعل والمفعول، ولا يصح أن يكون توقف وجودهما وحسنهما على التكليف أو على وجود الفعل من العبد بالاختيار توقف العلة والمعلول والمقتضِي والمقتضَى، ولأن كلا منهما صفة توجب صفة أخرى لمتصف واحد كالتأليف في الجسم علة لصحة انقسامه وكالجوهرية فيه مقتضية لتحيزه، ولا يصح أن يكون الجميع من توقف المسبب على السبب لأن فاعل السبب فاعل المسبب، فيتناول أن فاعل التكليف فاعل الإرسال والمجازاة وهو الله تعالى، وذلك مسلم ولكنه لا يتناول أن كون العبد فاعلاً لفعله سبباً فيهما لما علمت أن شرط التسبب اتحاد الفاعل، فلم يبق إلا أن كون العبد فاعلاً لفعله داع إلى فعلهما وشرط في حسنهما، أما كونه داع في فعلهما، فلأن فعلهما وجه حكمة متفرع على كون العبد فاعلاً لفعله، وأما كونه شرطاً في حسنهما، فلأنا نعلم أن لو لا كون العبد فاعلاً لفعله باختياره لما حسن الإرسال إليه ومجازاته بحسبه، لعلمنا ضرورة أنهما لا يحسنان فيما هو مخلوق في العبد بلا تناكر كالطول والقصر والألوان والصحة والمرض وسائر ما هو في العبد بفعل الله تعالى كالحياة والقدرة وخلق علوم العقل الضرورية أو عدمها فيه، لأن حقيقة الداعي وحقيقة الشرط قد حصلتا فيه.(1/360)