الباب الثاني في العدل وما يتصل به
اعلم أن العدل من أسماء الأضداد يقال: عَدَلَ - أي أنصف وأحسن-، ومنه قوله تعالى: ?وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ? {الأعراف:181}، ويقال: عَدَلَ - أي جار ومال عن الحق-، ومنه قوله تعالى: ?ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ? {الأنعام:1}، وهو مصدر عَدَلَ يَعْدِلُ، وتارة يوصف به الفعل تقول هذا فعل عَدْلٍ قال تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ? {النمل:90}، وتارة يوصف به الفاعل تقول: زيدٌ عَدْلٌ. مبالغة في وصفه بالعدالة، كرجل صَوْم ونَوْم ونحو ذلك.
فحقيقته في الفاعل: هو الذي لا يفعل القبيح ولا يخل بما يجب من جهة الحكمة وأفعاله كلها حسنة. وقيل: هو المُوَفِّر حق الغير والمستوفي الحق منه والتارك ما لا يستحق مع القدرة، وهما متقاربان ولا فرق بينهما في المعنى.
وحقيقته في الفعل: هو توفير حق الغير واستيفاء الحق منه وترك ما لا يستحق مع القدرة.
وقد عرفت بما ذكر من حد العدل أنه كلام يرجع إلى أفعال الله تعالى، يعني فيما يجوز أن يفعله لعدم منافاته العدل، وما لا يجوز لمنافاته العدل، وما يجب أن يفعله لأن الإخلال به مناف للعدل.(1/351)


الفرق بين العدل والتوحيد
فالفرق بين العدل والتوحيد:
أن التوحيد: فيما يجب لذاته تعالى من إثباتها، وإثبات الصفات الواجب له، ونفي الصفات التي لا تجوز عليه.
والعدل: فيما يرجع إلى أفعاله لا إلى ذاته.
وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى الفرق بينهما وبيان كل منهما بأقرب عبارة وأوضح إشارة لَمَّا سُئل عن العدل والتوحيد فقال عليه السلام : العدل أن لا تتهمه، والتوحيد أن لا تتوهمه. لأن الاتهام يتعلق بالأفعال، والتوهم تصور الذوات، فلا يحصل القول بالعدل إلا بعدم اتهامه بفعل كذب أو ظلم أو عبث، ولا يحصل القول بالتوحيد إلا بعدم توهمه تعالى وتصوره على أي كيف، لأن كلما توهمه الوهم أو تصوره الخيال فهو مخلوق مجعول على ذلك الكيف.
فانظر إلى هذا الكلام البالغ من الفصاحة الغاية والآخذ من البلاغة موضع النهاية، لإحاطته بالمعنى من دون زيادة عليه مع الإيجاز الذي لا يمكن اختصار شيء منه إلى ما ينضم إلى ذلك من علم البديع الراجع إلى تحسين اللفظ بالتجنيس والتسجيع وتقارب اللفظين واتفاقهما في أكثر الحروف وتواردهما من باب واحد وهو النفي المقرون بأَنْ المفسِّرة، ولِمْ لا وهو كلام أخي رسول الله الأمين وشبيه أنبياء الله الأولين باب مدينة علم المصطفى ومعدن حكمته لمن اتبع هديه واقتفى.
ثم أطلق العدل في تعارف المتكلمين على: العلم بعدل الله وحكمته وتنزيهه عن فعل القبيح، كما أطلق التوحيد عندهم على: العلم بالله تعالى وما يجب له تعالى من الصفات والأسماء وما يجب نفيه عنه تعالى منها، ومنه قوله رحمه الله تعالى:
لو شُقَّ عن صَدْرِي وجَدُوا وَسْطَهُ .... سَطْرَانِ قَدْ خُطَّا بلا كَاتِبِ
العدلُ والتوحيدُ في جانبٍ .... وحُبُّ أَهْلِ البيتِ في جَانبِ(1/352)


فمن قال: إن الله تعالى لا يفعل القبيح كالظلم والكذب والعبث والسفه، وأنه لا يخل بالواجب من جهة الحكمة كالإنصاف للمظلوم من الظالم والبيان للمكلف بما كلفه وتمكينه منه ونحو ذلك، وأن أفعاله كلها حسنة. فهو عالم بالعدل ويقال له عَدْلِي.
ومن أخل بشيء من هذه الثلاثة الأطراف كقول المجبرة: إن الله تعالى خلق الظلم والكذب وسائر الفساد في العباد، وأنكروا وجوب إنصاف المظلوم من الظالم، وجوزوا تكليف مالا يطاق وقالوا: إن العقل لا يدرك في أفعاله تعالى المتعلقة بأفعال العباد حسناً ولا قبحاً. فهو غير عالم بعدل الله وحكمته ولا يقال له عَدْلي، ولهذا ترى المجبرة على طبقاتها لا تلاحظ وصف الله تعالى بالعدل والحكمة، ولا تجدهم يطلقون على الله تعالى لفظة عدل حكيم إلا نادراً، وإن كان كل أحد منهم لو سئل عن صحة إطلاق هذين الاسمين الشريفين على الله تعالى لما وسعه إنكار ذلك، ولا تجد أحدهم يسمي نفسه أو أحد مشائخه أو موافقيه في خلق الأفعال عدلياً، ويكثرون اللهج من قولهم: نحن من أهل السنة والجماعة وأهل الحق.
والدَّعَاوَى إن لم تُقِيْمُوا عليها .... بيناتٍ أَبْنَاؤُهَا أَدْعِيَاءُ
وينبغي قبل التكلم على مسائل العدل أن نتكلم في ثلاثة أطراف:
الأول: في حقيقة الحسن وحقيقة القبيح.
الثاني: فيما يستقل العقل بإدراك حسنه او قبحه.
الثالث: في بيان الوجوه التي لأجلها يحسن الفعل أو يقبح، لأن جميع الباب بل وما بعده الخ الكتاب ينبني على ذلك.(1/353)


حقيقة الحسن وحقيقة القبيح
أما الطرف الأول:
فحقيقة الحسن: هو ما للقادر عليه فعله، وقيل: هو مالا عقاب عليه، وقيل: ما هو إذا فعله القادر عليه استحق المدح، وعلى الأولين فهو يشمل الواجب العقلي والشرعي والمندوب والمباح والمكروه، فإن الكل للقادر عليه أن يفعله ولا عقاب عليه في فعله، وعلى الثالث لا يدخل إلا الواجب والمندوب، فالأولان أصح نظراً إلى عرف أهل الفن من حصر الأفعال بين الحسن والقبيح ولا واسطة، فلزم إدخال المباح والمكروه في قسم الحسن، إذ لو لم يدخلا فيه لدخلا في قسم القبيح فيستحق الذم والعقاب عليهما وذلك باطل اتفاقاً، لأنه يرفع حقيقتهما ويلحقهما بالمحرم.
قلت: ولا نسلم دخولهما في الحسن إلا إذا وقعا لغرض صحيح مقصود من الفاعل لهما وإلا لحقا بالعبث وهو من القبيح اتفاقاً، ولا يرد عليه لزوم أن يستحق العقاب عليهما إذا عَرِيَا عن ذلك الغرض، لأنه سيأتي اختلاف في حد القبيح على أقوال أوفقها: هو ما إذا فعله القادر عليه استحق الذم، وذلك مسلم أن فاعل المباح والمكروه إذا فعلهما القادر عليهما على وجه العبث استحق الذم لكنه ذم دون الذم على فعل المحرم وترك الواجب، والآخر أقوى من جهة المعنى المناسب للفظ الحسن ولأنه يخرج منه الأفعال الحقيرة التي لا صفة لها زائدة على كونها فعلاً كتحريك النائم يده، وانهيال الرمل، وتصدع الغبار من الأرض عند المشي، وأفعال المجانين والصبيان، فإنه لا معنى لوصف شيء من ذلك بأنه حسن، والملجي لأهل الحدين الأولين إرادة الحصر بين الحسن والقبح لينطبق على هذه القاعدة حصر أفعال الله تعالى بين حسن فيصح أن يفعله وقبيح فلا يصح أن يفعله، وهذا المعنى هو ممكن بالنظر إلى الحد الثالث فإنها تصير أفعال الله تعالى محصورة بين حسن يستحق به المدح وقبيح يستحق به الذم لو فعله، فيجب أن ينزه عنه، فيكون الثالث أولى من الحدين الأولين.(1/354)


وحقيقة القبيح: هو ما ليس للقادر عليه فعله، وقيل: ما يستحق في فعله العقاب، وقيل: هو ما إذا فعله القادر عليه استحق الذم. وهو الأصح كما مر لكن يزاد فيه: على بعض الوجوه. ليخرج منه ما صدر من الصبيان والمجانين من الكذب وما فيه مضرة فإنه لا ذم عليهم لسلب العقل، والفعل نفسه قبيح لأنه يستحق عليه الذم في بعض الوجوه وهو ما إذا صدر من المكلف غير الملجأ إليه، ويرد على الجميع من حدي الحسن والقبيح أنه إنما يستحق العقاب أو الذم أو نقيضهما، ويعرف جواز الفعل من عدمه بعد معرفة أنه حسن أو قبيح، فإذا علقتم معرفة الحسن والقبح على ما ذكرتم كان إذاً دوراً محضاً.
والجواب: إنما يرد هذا لو أريد من الحد تصوير الماهية وليس هو المراد هنا، وإنما المراد شرح لفظ الحسن والقبيح، فأما ماهيتهما فسيأتي الكلام عليها في الطرفين الآخرين.(1/355)

71 / 311
ع
En
A+
A-