بحث مفيد في باب التوحيد
تتمة لباب التوحيد
اعلم أن الله سبحانه وتعالى لا تنال أفكار المتفكرين الإحاطة به عِلماً، ولا طريق لعقول ذوي الألباب المستبصرين إلى الدراية بِكُنْهٍ له ظناً ولا جزماً، دع عنك من يرمي بالأقوال من المتجاسرين تخميناً ورجماً، لأنه لما لم يكن للخلق طريق إلى العلم به تعالى إلا التفكر في مصنوعاته والتدبر في كيفيات مخلوقاته، وكان الصنع إنما يدل بذاته على وجود صانعه وأنه قادر عليه وبإتقانه وحسن ترتيبه على أن صانعه عالم به حكيم، وأن القادر العالم لا بد أن يكون حياً، ثبت لا محالة وصف الله تعالى بما ذكر من أنه تعالى موجود قادر عالم حي حكيم، ثم لزم بإعادة النظر أن هذا الصانع لا يجوز عليه شيء من صفات ذلك الصنع المحدث فلا يصح أن يكون صانعه محدثاً، وأن هذه الصفات ثابتة له لذاته لا لفاعل ولا لعلة ولا أي مؤثر وأنه لا يصح أن يكون جسماً، ولا عرضاً، ولا يصح عليه ما يصح عليهما من الرؤية ونحوها من سائر الإدراكات بإحدى الحواس، ولا الحاجة، ولا مشاركة له في صنعه، فلزم وصفه تعالى بأنه قديم لا يشبه الأشياء ولا تجوز عليه الحاجة، وأنه واحد ليس معه إله ثان، ثم لا مجال للعقول إلى إثبات وصف ولا نفيه سوى ما ذكر فيجب الاقتصار عليه.
قال الإمام القاسم عليه السلام في الأساس والشارح عليه السلام في الشرح ما لفظه: والعلم بأن للمصنوع صانعاً لا يستلزم معرفة كنه صانعه -أي معرفة حقيقة صانعه بالإحاطة من جميع الوجوه-، وإنما يستلزم أن له صانعاً قادراً حياً عليماً حكيماً كالآثار المصنوعة الموجودة في القفار، فإن العقل لا يهتدي إلى معرفة كنه ذات صانعها من كونه طويلاً أو قصيراً أو أبيض أو أسود أو نحو ذلك، وإنما يحكم العقل بأن لها صانعاً حياً قادراً عالماً حكيماً الخ.(1/346)
إذا عرفت ذلك، فاعلم أن الله تعالى لم يكلف عباده العقلاء من معرفة ذاته إلا ما مر ذكره، وأما غير العقلاء فلا تكليف عليهم بشيء من ذلك ولا غيره كالصبيان والمجانين وسائر الحيوانات لأن العقل مناط التكليف، فلم يكلف الله عباده العقلاء من معرفة ذاته إلا ما ذكر، لأنه لو كلفهم غير ذلك ولا دليل لهم على العلم به عقلاً كما عرفت ولا ورد السمع به كما هو المعلوم أنه لم يرد السمع بزيادة عليه لكان ذلك تكليفاً لما لا يعلم ولا خلاف في امتناعه.
نعم وقد علمت أيها الطالب الرشاد مما ذكر أنه لا مجال للعقل في العلم بأن له تعالى أوصافاً لا يعلمها العباد سوى ما مر، ولا أن ليس له تعالى أوصاف لا يعلمونها سوى ما مر، وقد اختلف الناس بعد ذلك بين إفراط وتفريط وتوقف يتوسط، فحكى النوبختي وهو من أهل المقالات عن الزيدية والمعتزلة وأكثر الخوارج: أن ليس لله تعالى أوصاف لا طريق للعقل إليها. قال الإمام المهدي عليه السلام : لأنا لو قدرنا زيادته أو نقصه لعاد على التمييز الكامل بالنقض، وأقسم على ذلك أبو هاشم، وقال الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام وأبو الحسين: قال ابن أبي الحديد: وهو قول علي عليه السلام والأئمة من أولاده عليهم السلام: أن لله تعالى أوصاف لا يعلمها العباد ولم يطلع العباد من معرفة ذاته على كل ما يعلم.(1/347)
والحق الحقيق بالتوقف عليه هو ما يظهر من الكلام الذي مر أنه لا طريق إلى العلم بكل من الطرفين المذكورين، فلسنا نعلم أن له تعالى أوصافاً غير ما مر كما يقوله أهل القول الثاني ولا أن ليس له ذلك كما يقوله أهل القول الأول، بل لا نعلم في ما عدا ما مر ذكره نفياً ولا إثباتاً لأن كلاً منهما يحتاج إلى دليل ولا دليل على أيهما، وهذا هو الظاهر من كلام الإمام القاسم والشارح عليهما السلام الذي مر، وهو ظاهر مذهب سائر الأئمة والمطابق لقوله تعالى: ? يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا? {طه:110}، ولقوله تعالى: ? وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا? {الإسراء:36}، ولا يُسلم إطلاق الرواية عن الزيدية بالأول وما ذكر في الاحتجاج له ممنوع بأنا إن قدرنا زيادة تعود على ما مر بالنقض فمعلوم البطلان، وإن قدرنا زيادة لا تعود عليه بالنقض فلا سبيل إلى انتفائها كما يقوله أهل القول الأول، ولا إلى ثبوتها كما يقوله أهل القول الثاني، فلا يُسلم أنه قول علي عليه السلام والأئمة من أولاده، لأن من تتبع كلام أمير المؤمنين وتأويله، علم أن لا مأخذ فيه لأي القولين سيما والمسألة تحتاج إلى قاطع لقوله تعالى: ? وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ?.
إذا عرفت ذلك، فينبغي للعاقل بل يجب عليه أن يردع نفسه من الوسواس والتفكر في ذات الله تعالى، لأنه خوض فيما لا يوقف له على حقيقة ولا طريق إلى العلم فيه بصحة، بل لا يؤمن معه الخروج من التوحيد إلى التحديد ومن الإيمان والانقياد إلى الطغيان والإلحاد.
عنه صلى الله عليه وآله وسلم: " تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق"، أخرجه الإمام محمد بن القاسم والدارمي.(1/348)
وأخرج أحمد عن عائشة مرفوعاً: " أن أحدكم يأتيه الشيطان فيقول: من خلقك؟ فيقول: الله. فيقول من خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل: آمنت بالله ورسوله فإنه يذهب عنه".
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة مرفوعاً: " لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله. فمن خلق الله؟ فمن وجد شيئاً من ذلك فليقل: آمنت بالله وبرسوله".
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: " تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في الله ".
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : من تفكر في خلق الله وحد، ومن تفكر في الله ألحد.وعنه عليه السلام: العقل آلة أُعطيناها لاستعمال العبودية لا لإدراك الربوبية، فمن استعملها في إدراك الربوبية فاتته العبودية ولم ينل الربوبية. وقال عليه السلام : لا تدركه الأوهام بل تجلى بها لها وبها امتنع منها وإليها حاكمها. وقال عليه السلام : واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن الاقتحام للسدود المضروبة دون الغيوب الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عنه رسوخاً.
ويروَى له عليه السلام أو لأبي بكر:
العجز عن دَرَكِ الإدراكِ إدراكُ .... والبحثُ عن محضِ كُنْه الذاتِ إشراكُ
وقال عليه السلام : سبحانك لسنا نعرف كنه ذاتك غير أنا نعرف أنك حي قيوم. وقال عليه السلام : فهات أيها المتكلف لأن تصف ربك، صف لنا جبريل؟ إلى غير ذلك من كلامه عليه السلام .
وقال القاسم عليه السلام : جعل الله في المكلفين فَنَّيْن العقل والروح، وهما قوام الإنسان لدينه ودنياه وقد حواهما جسمه وهو يعجز عن صفتهما، فكيف يتعدى بجهله إلى عرفان ماهية الخالق؟.
وقال بعض العلماء الموحدين: من اطمأن إلى موجود أدرك حقيقته فهو مشبه، ومن اطمأن إلى النفي المحض فهو معطل، ومن قطع بموجود يعجز عن إدراك حقيقته فهو موحد.(1/349)
ولله ابن أبي الحديد حيث يقول:
سَافَرَتْ فيكَ العقولُ فَمَا .... رَبِحَتْ إلا أذَى السَّفَرِ
رَجَعَتْ حَسْرَى وَمَا وقَفَتْ .... لا عَلَى عَيْنٍ ولا أَثرِ
فَلَحَا الله الأُوْلَى زَعموا .... أَنَّك المَعْلُومُ بالنظرِ
كَذَبوا إِنَّ الذي زَعَموا .... خارج عن قوةِ البشرِ
وقال:
واللهِ مَا مُوْسَى وَلاَ .... عِيْسَى المسيحُ ولا محمدْ
كلا ولا جبريلُ وهـ .... و إلى مَحَلِّ القُدسِ يصعدْ
كلا ولا النفسَ البسيطَ .... لا ولا العقلَ المجردْ
من كُنْهِ ذاتِك غيرَ أَنَّكَ .... أَوْحَدِي الذاتِ سَرْمَدْ
وجِدوا إضافاتٍ ونفياً .... والحقيقةُ ليس تُوْجَدْ
ورأوا وُجُوْداً واجباً .... يَفْنَى الزمانُ وليس يَنْفَدْ
وللحقير غفر الله زلته وتجاوز عنه في معنى ذلك من القصيدة التي مر ذكرها في فصل إثبات الصانع سبحانه وتعالى قوله:
تَحَيَّرَ أهلُ النُّهَى فَانْتَهَى .... ذَكَاهُمْ عن الكُنْهِ أعمى أَصَمْ
ولم يدركوا غير أنَّ الذي .... له الخلقَ مولاهُمُ المعتصَمْ
هو القادرُ العالمُ الحيُّ مُحيي .... الخلق بعد الفَنَا والعَدَمْ
سميعٌ بصيرٌ خبيرٌ بهم .... مُدَبِّرهُمُ في الحَشَا والظُلَمْ
انتهى الكلام في التوحيد، ويتلوه الكلام في العدل وما يتصل به من المسائل المتعلقة بما يفعله الله من المصالح، والابتلاء ونحو ذلك، وحيث أن العدل هو الركن الثاني مما يجب من معرفة الله تعالى، وهو يشتمل على مسائل عديدة وأبحاث مفيدة حسن أن نفرد له باباً بل كتاباً مستقلاً كما في المطولات، وقد ذكرت مسائل التوحيد فيما مر فصولاً مستقلة وأبحاثاً متصلة حتى صارت كلها كالباب الواحد فنقول حينئذ:(1/350)