حكم صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأقوال العلماء
[ وعلى صحابته المكرمين المؤيدين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ].
الصحابة: جمع صاحب، وهو في اللغة من صحب الإنسان في سفر أو غيره ولو مرة، ثم صار في العرف مستعملاً فيمن أكثر الملازمة والمحبة للمصحوب، والصحابي منسوب إلى الصحبة، وهو في الاصطلاح عند أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم: من طالت مجالسته للرسول صلى الله عليه وآله وسلم متبعاً له ومات على ذلك، وعند الأشاعرة ومن وافقهم: مَن رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مؤمناً به، واختلف في حكم الصحابة على خمسة أقول:
الأول: قول أئمتنا عليهم السلام: إن جميع الصحابة عدول إلا من أبى منهم عن الحق وخالف أمير المؤمنين عليه السلام .
الثاني: قول الأشعرية ومن وافقهم: إنهم كلهم عدول من دون استثناء، فثمرة الخلاف بيننا وبينهم فيمن خالف أمير المؤمنين عليه السلام .
الثالث: قول عمرو بن عبيد من المعتزلة ومن وافقه: إنهم كلهم عدول إلى وقت الفتن بينهم والحروب فصاروا بعد ذلك كلهم مجروحين، فأهل وقعة الجمل ووقائع صفين كلهم لديه مجروحين أصحاب أمير المؤمنين والمحاربين له.
الرابع: قول الخطابية: إنهم كلهم غير عدول قبل حدوث الفتن وبعدها، فالمتقدمون على أمير المؤمنين عليه السلام مجروحون بالتقدم، وأمير المؤمنين عليه السلام بسكوته عن حقه، وسائر الصحابة لعدم النكير.
الخامس: قول القاضي أبي بكر الباقلاَّني من الأشعرية هم مثل غيرهم من أهل الأعصار كالتابعين ومن بعدهم لا يحكم لأحدهم بعدالة إلا بمعدل ولا يجرح إلا بجارح، وتظهر ثمرة الخلاف بين هذا القول وبين قول أئمتنا عليهم السلام في المجهول من الصحابة، فعندنا: أنه يحكم بعدالته لمكان الصحبة، وعنده: بل حكمه الوقف.
إذا عرفت ذلك علمت أنه قد اشتمل قول أئمتنا عليهم السلام على طرفين من مواضع الخلاف:(1/31)


الأول: الحكم بالعدالة لكل من صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يحدث عهده أو بعده حدثاً.
الثاني: الحكم بجرح العدالة بكل من أحدث عهده أو بعده صلى الله عليه وآله وسلم.
وبعد إقامة الأدلة على كلا الطرفين يعلم بطلان ما عداه من جميع الأقوال المذكورة.
أما الطرف الأول: وهو الحكم بالعدالة وأنها الأصل فيهم فلأن المعلوم من دين كل نبي ضرورة أن من صحبه واقتدى به فلا شك في عدالته ونجاته، والقرآن ناطق بذلك قال تعالى: ? لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ? الآية{التوبة:117 }، وقال تعالى: ? وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ o أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ?{الواقعة:10،11}، وقال تعالى: ? لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى?{الحديد:10}، وقال تعالى: ? مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا? {الفتح:29}، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " طوبى لمن رآني "، وغير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على عدالتهم وأنها الأصل فيهم، وبذلك يبطل قول الخطابية الذين حكموا بجرحهم جميعاً قبل الفتن وبعدها، ويبطل قول عمرو بن عبيد حيث حكم بجرح جميعهم بعد وقوع الفتن،(1/32)


ويبطل قول الباقلاَّني حيث حكم في المستور منهم وهو الذي لم ينقل عنه ما يجرحه ولا ما يقضي بعدالته بالوقف في شأنه لأن الآيات والأحاديث قد حكمت بعدالة من صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو لم يجعل للصحبة أخصية تثبت العدالة لمجردها بل جعل الصحبة وجودها كعدمها حتى ينقل عن ذلك في الصحابي ما يقتضي تعديله من ملازمته للواجبات واجتنابه المحرمات فيحكم له بعد ذلك بالعدالة، وعندنا أن الحكم بعدالته لا يتوقف على ذلك بل نفس الصحبة مستلزِمة لذلك حتى ينقل عنه ما يجرحه ويخرجه عن حد العدالة.(1/33)


وأما الطرف الثاني: وهو الحكم على من أبى منهم وخالف الحق بعدم العدالة، فالذي يدل على ذلك أنهم داخلون في عموم خطابات القرآن القاضية بالوعيد والذم لأهل الكبائر بل هم أول من خوطب وكلف بها، وقد قال تعالى في شأنهم: ? إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا?{الفتح:10}، وقال مخاطباً لهم ومن بعدهم: ? وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيراً?{الفرقان19}، وقال مخاطباً لهم خاصة: ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ?{الحجرات:2}، وقال ? وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً? {الأحزاب:36}، ولم يفصل بين صحابي ولا غيره، وقال: ? إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ?{النور:23}، وقال: ? وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ?{النور:4}، ولم يفصل بين صحابي ولا غيره، وأحاديث الذين يُحْلَوْن عن الحوض ممن صحبه صلى الله عليه وآله وسلم وأحدثوا بعده قد رواها الموالف والمخالف، وحديث: " تقتل عماراً الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار "، رواه أيضاً الموالف والمخالف بل قد عده كثير(1/34)


من العلماء من المتواتر، فبطل قول الأشعرية ومن وافقهم في الحكم بالعدالة لكل فرد من الصحابة من دون استثناء من أبى وخالف الحق، حتى حكموا بنجاة من حارب أمير المؤمنين عليه السلام وعدالته ووجوب موالاته، وقد جعل الله سبحانه وتعالى أمير المؤمنين عليه السلام علم الإيمان ومنار الهدى والحجة على هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل محبته إيمان وبعضه نفاق، ومحبته محبةً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبغضه بغضاً له، وسبه سباً له، وحربه حرباً له، وجعله بمنزلة رأسه من جسده، ووردت التفاسير بأنه نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آية المباهلة، فما حكم من حارب رسول الله وبغضه وسبه ؟ وكذلك جعله منه بمنزلة هارون من موسى عليهما السلام، فما حكم من حارب موسى وهارون أو سبهما أو بغضهما ؟ وجعل صلى الله عليه وآله وسلم الحق مع علي وعلياً مع الحق حيثما دار دار معه، وجعله مع القرآن والقرآن معه، فما حكم من خالف الحق وخالف القرآن ؟ فماذا بعد الحق إلا الضلال، وما في مخالفة القرآن إلا الكفر والخبال، وهذا مع ما لأمير المؤمنين عليه السلام من الدخول في عموم الآيات والأحاديث القاضية بوجوب متابعة أهل البيت عليهم السلام والثناء عليهم وتطهيرهم من الرجس، ونجاة من تابعهم، وهلاك من خالفهم، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرف وهوى "، وفي رواية: هلك، وفي رواية: زج في النار، وأحاديث: إني تارك فيكم الثِّقْلَين، فإن أنكر المخالف التلازم واستواء الحكم بين محاربة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسبه وبغضه، وبين محاربة أمير المؤمنين عليه السلام وسبه وبغضه، وأنكر أن محبته إيمان وبغضه نفاق، وأنه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة هارون من موسى، وبمنزلة رأسه من جسده، وبمنزلة نفسه، وأنكر أن الحق والقرآن معه مع علمه ونقله وروايته لهذه الأحاديث(1/35)

7 / 311
ع
En
A+
A-