[ ومما يدل على ذلك ] من الأدلة السمعيَّة [ ?فاعلم أنه لا إله إلا الله ? ]{محمد:19}، [ وقوله ] تعالى: [ ?شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ] لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? {آل عمران:18}، [ وقوله ] تعالى: [ ?وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ] لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ ? {البقرة:163}، [ وقوله ] تعالى: [ ? قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ? ] {الإخلاص:1}، إلى قوله: ?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ? {الإخلاص:4}، فإن هذه الآيات وغيرها من آي الكتاب الكريم مصرحة بذلك وهي واردة في الكتاب العزيز على ضربين:
منها: ما هو مثير ومنبه على دفائن العقول كالآيات المذكورة أولاً في المتن والشرح.
ومنها: ما ليس كذلك.
فالأول يصح الاستدلال به على جميع مسائل التوحيد التي مر ذكرها،والثاني لا يصح الاستدلال به إلا فيما لا يستلزم الدور كهذه المسألة اتفاقاً، ومسألة نفي الرؤية، وسميع بصير، وقادر، وحي، وقديم على قول، فأما مسألة إثبات الصانع، وعالم، وغني، فلا يصح بغير المثير اتفاقاً، لأن صحة السمع متوقف على ثبوت هذه الثلاث المسائل، فلو أثبت بالسمع كان إذاً دوراً محضاً ما لم يكن مثيراً فلا دور، لأن الاستدلال حينئذ يكون من جهة الإثارة لا من جهة كون الكلام كلامه تعالى.(1/341)


الرد على الفرق المخالفة في أن الله تعالى لا ثاني له
تنبيه: اعلم أنه إذا تقررت الأدلة، وقد ثبت القول بأنه تعالى إله واحد لم نحتج إلى الاشتغال بإبطال كلام المخالفين لأن المسألة متى دارت بين نفي وإثبات لزم من ثبوت أحدهما نفي الآخر لأن ذلك شأن النقيضين، فإذا ثبت القول بأنه تعالى واحد بطل القول بإلهية غيره، لكن نزيد الكلام إيضاحاً بأن نقول:
أما الثنوية: القائلون بالنور والظلمة، فيبطل قولهم بأن النور والظلمة محدثان يتضادان على الهواء يعدم أحدهما فيوجد الآخر، وما صح عليه العدم بعد وجوده والوجود بعد عدمه فلا شك في حدوثه، وبعد فقولهم إن النور فاعل الخير لطبعه ولا يقدر على الشر مع أنه ممدوح على ذلك، والظلمة فاعل للشر بطبعه ولا يقدر على الخير مع أنه مذموم على ذلك دعوى بلا برهان عليها، وكل دعوى بلا برهان عليها فلا شك في بطلانها.
وبعدُ فلم يكن النور فاعل الخير والظلمة فاعل الشر بأولى من العكس لأن الكل بالطبع، وكذلك كون النور ممدوحاً والظلمة مذمومة إلا أن يكون من جهة أن النور ملائم للإنسان غير مستوحش منه والظلمة منافرة لطبعه مستوحش منها فأمر وراء ذلك، لأنهم يعلقون المدح والذم لما يصدر منهما من الأفعال لا باعتبار الملاءمة والمنافرة والوحشة وعدمها، اللهم إلا أن يقولوا: إن المدح للنور لأنه فاعل الخير والذم للظلمة لأنها فاعل الشر. فقد أبطلناه بأنه لم يكن النور فاعلاً للخير ولا الظلمة فاعلة للشر بأولى من العكس.(1/342)


وأما المجوس: فمن قال منهم: إن إهرمن ويزدان فاعلان بالطبع، وإن إهرمن فاعل الشر كله بطبعه ويزدان فاعل الخير كله بطبعه، فيعلم بطلان قوله بما مر من إبطال قول أهل النور والظلمة، ومن قال منهم: إن يزدان فاعل بالإرادة والاختيار وإنه قادر عالم قديم كان الخوض معه في التسمية وفي إضافة خلق المضار كالحرشات والسموم ونحوها إلى غيره وهو إهرمن لأنه محدث، والمحدث لا يصح منه إيجاد الأجسام والقدرة والحياة ونحو ذلك من الأعراض الضروريات، ولأنا قد بينا فيما مر في إثبات الصانع أن فاعل جميع الأجسام والأعراض الضروريات هو الله تعالى لا غيره.
وبعد فقولهم: إن إهرمن حدث من فكرة يزدان الردية يستلزم حدوث يزدان إذ الفكرة لا تجوز إلى على المخلوق الضعيف، وقولهم: إنه حدث من عفونات الأرض. قول باطل، إذ لا دليل عليه، إذ قام الدليل على بطلانه، لأنهم إذا عنوا بيزدان الباري تعالى وإهرمن الشيطان لعنه الله تعالى، فقد قامت الأدلة على أن الله تعالى هو الخالق للشيطان لأنه من جملة العالم، والله تعالى خالق جميع العالم كما تقدم ولقوله تعالى حاكياً عن الشيطان: ?رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ? {ص:79}.
وأما النصارى: فإن كان التثليث عندهم كما حكاه أهل المقالات الذي مر نقله عنهم من: أنه تعالى واحد بالحقيقة ثلاثة بالإقنومية أقنوم الأب وهو الباري تعالى، وأقنوم الابن وهو الكلمة أو العلم، وأقنوم روح القدس وهو الحياة الفاضية بينهما. فهو ظاهر التناقض من حيث أنه إذا كان واحداً استحال أن يكون اثنين أو ثلاثة أو أكثر ولله القائل:
قل للذي يَحسِبُ من جَهْلِهِ .... أن النصارى يَعرفون الحسابْ
لم صَحَّ ذا لم يَجعلوا واحداً .... ثلاثةً وهو خلافُ الصَّوابْ؟(1/343)


وإن كان باعتبار ما حكى الله عنهم من اتخاذ المسيح وأمه إلهين مع الله تعالى وأن المسيح ابن الله، وأنه اتحد به على اختلاف بينهم في الاتحاد فبعضهم يقول: اتحد بالشبه. وبعضهم يقول: اتحد بالذات. فهو أدخل في البطلان مما قبله، لأنا نعلم وهم يعلمون بالضرورة المستندة إلى التواتر أن عيسى وأمه عليهما السلام كانا من أهل الأعصار المتأخرة عن القرون الماضين قبلهما إلى عهد آدم عليه السلام وأنهما من جملة البشر المخلوق بلا تناكر، فكيف اتحادهما إلهين مع الله تعالى ومن حق الإله أن يكون قديماً وأن لا يكون بشراً مخلوقاً؟‍
وبعد، فقولهم: إن المسيح ابن الله. يستلزم الحلول والولادة والله متعال عن ذلك.
وبعد فقولهم: إنهما اتحدا مشيئة. قول باطل من حيث أن مشيئة عيسى محدثة قائمة بقلبه كما في غيره من سائر البشر، ومشيئة الله عبارة عن إيجاده الموجودات بلا إيجاد ولا سهو ولا خطأ، فأين إحدى المشيئتين من الأخرى؟‍
وبعد، فقول الآخرِين منهم: إنهما اتحدا بالذات. أدخل في الضلالة وأغرق في الجهالة، لأن الذاتين فأكثر يستحيل عليهما الاتحاد ويصيرا ذاتاً واحدة سيما إذا كان أحدهما قديماً والآخر محدثاً لما بينهما من التنافي.
وبعد، فعندهم: أن اليهود قتلوا عيسى عليه السلام وصلبوه فكيف يصح دعوى إلهية من قتلته اليهود، وهل سرى القتل إلى الذاتين كما هو مقتضى الاتحاد أم إلى إحداهما فهو يرفع الاتحاد، لأن التي قُتلت غير التي سلمت؟ وكيف يصح فيمن قهر حتى قتل وصلب أن يكون إلهاً؟‍ ولله القائل فلقد أفاد وأجاد:
عجباً للمسيحِ بين النصارى .... وإلى أي والدٍ نَسَبُوهُ
نسبوه إلى الإلهِ افتراءً .... ثم ظنوا اليهودَ قد قَتَلُوهُ
إن حَكَمْنا بصحةِ القَتْلِ والصَلْـ .... بِ عليه فأين كان أَبُوهُ؟‍
فَلئِن كان راضِياً بِأَذَاهمْ .... فاحمدوهم لأجلِ ما فَعَلُوهُ
ولَئِنْ كان سَاخطاً لأَذَاهِمْ .... فاعبُدُوهم لأنَّهم غَلَبُوهُ(1/344)


فيالها من خرافة أوجبت على أولئك الحكماء الانحطاط من أوج الحكمة والهندسة إلى حضيض الجهالة المركسة، ويالها من حذاقة أخرجت أولئك الماهرين في الطب والمعرفة عن دائرة العقلاء وقضت عليهم بالانخراط في سلك البله وأهل العجرفة، فلا غرو أن يكونوا بعد ذلك أجهل الملل الكفرية وإن كانوا هم الحكماء لبعض أوجاع البرية، ولا جرم إذ عَمِيَت أبصارهم عن إدراك حقائق المعقولات أن تصم أسماعهم عما جاء به خاتم الشرائع من المنقولات، لقد استبشر الشيطان بعد أن أضلهم عن معرفة رب العالمين أن يصرفهم عن الحنيفية البيضاء ملة إبراهيم أول المسلمين، ولقد استأمن منهم أن يلتفتوا إلى البرهان على حقائق الإيمان لما قَنَّاهم بما أدركوه من الهندسة ومن معالجة الأبدان أنهم الذي يشار إليهم بالبنان من عالم الإنسان، قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو خير الفاتحين، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.
وأما الصابئون: فلما أقروا بأن للعالم صانعاً قادراً عالماً حياً قديماً، ثم ادعوا أنه خلق الأفلاك حية قادرة عالمة صار محاججتهم في دعوى كون الأفلاك قادرة عالمة حية وتسميتهم لها ملائكة وعبادتها، فيقال: ما دليلكم على أنها قادرة عالمة حية واستحقاقها العبادة؟ ولا شك أنها دعوى باطلة إذ المعلوم من حالها أنها ليست كذلك، وإنما هي من جملة مخلوقاته تعالى فلا يصح دعوى ما ذكروه وأنها آلهة تستحق العبادة مع الله تعالى، ومن أعظم دليل على بطلان قولهم مناقضتهم وصفها بالإلهية وأنها ملائكة لأن المَلَكَ مخلوق غير إله والإله بخلافه، فاجتماع الوصفين في ذات واحدة محال بَيِّن الإحالة بلا محالة.(1/345)

69 / 311
ع
En
A+
A-