البينة ليعم أي بينة كانت من الدلالات المعتبرة في الخطاب، ووصف البينة بأنها منه -أي من الكتاب- ليشير إلى أنه لا اعتماد على كلام غيره تعالى التي يزخرفها بعضهم لبعض، ثم ختم الآية بهذا المعنى صراحة فقال ?بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا ?، فسبحان الله ما أبلغ حجج الله وأجل معاني كلام الله، ومثل هذه الآية قوله تعالى: ?قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ? {الأحقاف:4}.
فإن قلت: قد وضحت الدلالة من هاتين الآيتين على التوحيد، فمن أين دلالتهما على العدل وإن لم نكن بصدده لكن قد ادعيت في أول الكلام عليهما دلالتهما على العدل مع التوحيد فبين تمام مُدَّعَاك على ذلك، لأن تلك التوجيهات التي ذكرت لا مدخل لها في العدل، لأنه يصح من القائلين بخلق الأفعال أخذهم دلالتها على التوحيد كما ذكرت؟.(1/336)


قلت: دلالتهما على العدل من حيث أن الله عز وجل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحاجج المشركين بتلك المحاججة عما هم عليه من القول بإِلَهِيَّتِهَا واتخاذها شركاء لله تعالى يعبدونها من دونه تعالى، وهذا لا يستقيم إلا إذا كانت أفعالهم منهم والتحدي المأمور به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمحاججة على تلك المراتب التي ذكر الله له منه وفعله، ولو كانت الأفعال مخلوقة في المشركين من الله تعالى لما كان لهذا الكلام معنىً ولما صح أن يأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمحاججتهم ومكالمتهم، إذ ذلك فعله تعالى بهم وإيجاده فيهم وأَمْرِ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمحاججتهم لا ثمرة له حينئذ، ولأن من جملة مخلوقاته تعالى محاججة الرسول إياهم فلا حاجة للأمر بها بل إن شاء تعالى أوجدها فيه صلى الله عليه وآله وسلم من دون أمر بها وإِنْ شَاءَ لم يوجدها، وإن شاء أوجد فيهم التوحيد ونفى عنهم الشرك وإن شاء أبقاهم عليه، فهذه الدلالة من جهة اللزوم العقلي لو كانت الأفعال من الله تعالى، وأما من جهة اللفظ فلأنه تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: ?قل? وقال: ?شركائكم الذين تدعون? وقال: ?أروني? وقال: ?خلقوا?، يعنى لو كانوا آلهة، وقال: ?ائتوني?. وقال: ?بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً? فأسند جميع هذه الأفعال إلى غيره تعالى حيث أسند بعضها إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبعضها إلى المشركين وسماهم ظالمين وسمى مواعيدهم غرورا، ولو كانت عن الله لما كانت غرورا لأن وعده الحق، وهكذا دلالة سائر آي القرآن الكريم على العدل حتى قال القرشي رحمه الله تعالى: إن ما من آية من فاتحة الكتاب إلى خاتمته إلا وفيها دلالة على العدل وبطلان الجبر.(1/337)


قال عليه السلام [ فبين ] سبحانه وتعالى بالآيات المذكورات وغيرها من الآيات الدالة على التوحيد [ أن هذا الخلق يشهد بإله واحد، ] وهو الله تعالى لا غيره [ وأنه ليس هناك ] أي في السماوات والأرضين وما بينهما من أصناف العالم فليس فيه [ خلق ثانٍ يشهد بإله ثانٍ، وهذا واضح، فإن هذا العالم ] وهو اسم شامل لكل ما عدا الله سبحانه وتعالى من السماوات والأرضين وما بينهما من جميع المخلوقات الجن والإنس والملائكة وجميع الحيوانات والنبات وكل شيء سوى الله تعالى [ دليل على إله واحد ] لا شريك له [ وهو الذي أرسل الرسل، وأوضح السُّبُل ].
وقد أشار عليه السلام إلى دليل يذكر في المسألة غير دليل التمانع المذكور، وتحريره: أن يقال: لو كان ثمة إله آخر مع الله تعالى لوجب أن يدل على نفسه ولرأينا فعله متميزاً عن فعل غيره، ومعلوم أنه لم يقع ذلك فلما لم يقع دل على عدمه، وقد تضمن هذا الدليل قول أمير المؤمنين وإمام المتكلمين مخاطباً لولده الحسن عليهما السلام: وأعلم يا بني أنه لو كان لربك ثان لأتتك رسله، ولرأيت آثار صنعه وملكه وسلطانه، ولكنه إله واحد لا شريك له، أو كما قال صلوات الله عليه.
دليل آخر ذكره الحسين بن القاسم عليهما السلام حكاه عنه شيخنا صفي الإسلام رحمه الله تعالى وهو: أنه لو كان مع الله تعالى إله ثان لم يخل إما أن يكونا مجتمعين أو مفترقين وأيهما كان لزم الحدوث، فلا يصح أن يكون معه تعالى إله غيره.(1/338)


قلت: وهذا الدليل يمكن أن يُعترض بأن يقال إنما كان يلزم ذلك أعني الاجتماع والافتراق لو كانا جسمين لأن ذلك من خواص الأجسام، فأما مع القول بأن الإله لا يصح أن يكون جسماً ولا عرضاً كما هو المقرر في المسألة حسبما مر في فصل نفي التشبيه فلا يرد ما ذكر، لكن يحرر هذا الدليل على وجه يسقط معه الاعتراض المذكور وهو أن يقال: لو كان معه إله ثان، فإما أن يكون يمتاز عنه أَو لا، إن لم يمتز كان القول به باطلا بل آيِلاً إلى نفي الثاني وهو الذي نقول، وإن امتاز فأما بالذات لم يعقل حيث أن كلا منهما ليس بجسم ولا عرض فيمتاز بالجهة، وإما بالوصف فليس إلا أن كلاً منهما مع القول بإِلَهِيَّتِهما قادر على كل المقدورات عالم بكل المعلومات حياً دائماً لذاته فلا يصح التمايز بذلك، وأما بوصف غير ذلك فلا يعقل، فلا يصح القول حينئذ بإله غيره تعالى إلا لو حصل اختلاف وتشاجر وفساد، ولم يحصل، فعلم عدم وجود إله غيره تعالى.
دليل آخر: لو جوزنا إلهاً ثانياً لجوزناه ولا حاصر فيصح تجويز ثالثاً ورابعاً إلى مالا نهاية له بِحَدٍّ ولا يدرك بِعَدٍّ، وهذا أدخل من السفسطة في الجهالة وأغرق من كل قول في الهوس والضلالة.(1/339)


دليل آخر: ذكره الإمام الحسن بن علي بن داود عليهم السلام حكاه عنه في شرح الأساس قال عليه السلام ما معناه: لو كان ثمة إله آخر مع الله تعالى مع كون الله تعالى قد أخبر في كتبه وعلى ألسنة رسله أنه تعالى ليس له ثان، فإما أن يكون هذا الثاني عالماً بأن الله تعالى أخبر بأنه ليس له ثان ولم ينكر ذلك ولا فعل ما يدل على التكذيب أو ليس بعالم، الثاني يلزم عليه الجهل، والأول إما أن يترك الإنكار أو فعل ما يدل على التكذيب مع القدرة على ذلك كان تاركاً لما يجب من جهة الحكمة، أو مع عدم القدرة كان عجزاً وأيَّمَّا كان من التقادير المذكورة كان منافياً للإلهية، فلا يصح القول بالإله الثاني لما ذكر ولما يلزم من الكذب على الله تعالى وعلى ملائكته ورسله وكل من دان بتوحيده.
قلت: وهذا دليل لا غبار عليه ولكنه مبني على القول بالعدل، فأما على القول بالجبر وتجويز فعل القبائح على الله تعالى وإنكار التحسين والتقبيح العقليين كما هو مذهب المجبرة، فلا يتأتى هذا الدليل فتأمل، اللهم إلا أن يتوصل المجبرة إلى تصحيحه على أصلهم الباطل بأن يقولوا: إن الكذب وإن جاز على الله تعالى لكونه غير منهي عنه ولا يدرك العقل جهة قبح في فعله تعالى. فهو لا يجوز على الأنبياء والملائكة وجميع الأمة لأنه قبيح منهم لأنهم منهيون عنه، وفي تجويز إله ثان والقول به تكذيب لهم ولزوم الكذب في خبرهم ودينهم بأنه تعالى إله واحد، فلا يجوز القول به لذلك لا لكون الكذب يقبح من الله تعالى كان العذر حينئذ أقبح، وصار التنصل عن الباطل بما هو أفضح.(1/340)

68 / 311
ع
En
A+
A-