أحدهما: انتفاء الصورتين المترتب على كل واحدة وقوع الفساد وهما وجود الآلهة معها الله أو انتفاء الجميع، بخلاف كلام أحمد فلا يفيد إلا انتفاء الأولى فقط، ألا تراه يظهر منه عدم ملاحظة الثانية والانقصار على ملاحظة الأولى بقوله: معناه لو كان فيهما آلهة غير الله شركاء لله.
وثانيهما: أن كلام الزمخشري صار التقدير كما ذكرناه: لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا لكن فيهما آلهة إلا الله فلم تفسدا، وعلى كلام أحمد صار التقدير: لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا لكن ليس فيهما آلهة غير الله فلم تفسدا، فالاستثناء في كلام الزمخشري أفاد إثبات إلهية الله تعالى ونفي إلهية ماعداه سبحانه وتعالى، وكلام أحمد إنما يفيد نفي إلهية ماعدا الله تعالى، فأما إثبات إلهية الله تعالى فلا تفيدها تلك العبارة لأن المستثنى بغير في حكم المسكوت عنه وليس في حكم المثبت له ما نفي عن المستثنى منه، وإن سلم فمع احتمال خلافه تقول: جاء القوم إلا زيد. بمعنى إلا زيد، فلم يجيء، أو ما جاء القوم إلا زيد بمعنى فإنه جاء بخلاف غير، تقول: جاء القوم غير زيد، فيحتمل أن المعنى جاء القوم المغايرون لزيد فليس فيه إفادة نفي مجيء زيد، لأنك أردت وصفهم بمغايرته واقتصرت على الإخبار عنهم بالمجيء لتحققهم لديك بالنسبة إليهم دونهم ويحتمل أنك أردت استثناءه منهم وأردت نفي المجيء عنه، لكن ليست الدلالة على ذلك صريحة كما لو أتيت بإلا سيما فيما إذا كان الاستثناء من مثبت كما مُثِّل، وأما إذا كان الاستثناء من منفي كقوله تعالى: ?فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ?{هود:63}، وكما لو قلت: ما جاءني القوم غير زيد. فالاستثناء مع ذلك أظهر من الوصفية المحضة أي المجردة عنه لكن لا يخرج عن الاحتمال، فلله در إمام المفسرين لآي الكتاب وهمام المتدبرين لما انطوت عليه من الأسرار التي تخفى على كثير من ذوي الألباب، وفي معنى الآية المذكورة وأصرح في الدلالة على لزوم الاختلاف(1/331)
لو كان معه تعالى إله آخر واستحالة وجود مراد الجميع قوله تعالى: ?مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ? {المؤمنون:91}، قال عليه السلام [ ولقول الله تعالى ?أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ? ] {الرعد:16}. أم عاطفة للجملة على ما قبلها وهو قوله تعالى: ?هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ?، فيكون تقدير الكلام أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ليس الأمر كذلك [ ?قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ? ] {الرعد:16}، والقهار مبالغة في القاهر كفعال في فاعل، وقد مر أنه بمعنى القادر، ويمكن أنه بمعنى القادر مع الغلبة والقهر لمن ناواه لا مجرد الوصف بالقادرية فيكون أبلغ من القادر المطلق.(1/332)
ووجه الاستدلال بهذه الآية أن الاستفهام الإنكاري يفيد النفي والإنكار على من ادعى ثبوت ذلك المنفي، فيكون المعنى من الآية الكريمة كما انتفى أن يستوي الأعمى والبصير وأن تستوي الظلمات والنور كذلك ينتفي أن يخلق الشركاء الذين ادعوهم معه تعالى خلقاً كخلقه فتشابه الخلق عليهم، فإذا انتفى ذلك فقل الله خالق كل شيء من أجسام السماوات والأرضين وما فيهما من الأجسام والأعراض الضروريات وسائر المخلوقات كالحيوانات والأرزاق وغير ذلك، فعبر عن الجميع بقوله تعالى: ?خالق كل شيء ?، فلم يخرج من العموم الذي اقتضاه ?كل? المضافة إلى أعم النكرات وهو لفظ ?شيء? إلا ما خصصه العقل وهو ذاته المقدسة إجماعاً لاستحالة أن يكون من مخلوقاته تعالى لما كان للتوبيخ والإرشاد إلى الاستدلال وإسناد الجعل إلى المشركين معنىً، وهذا واضح، فقاتل الله أهل الجبر كيف يقلبون التخصيص والتعميم في هذه الآية وأمثالها على حسب أهوائهم.(1/333)
خلق الأفعال عند المجبرة
?وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ? {القصص:50}، فيستدلون بالعموم على خلق أفعال العباد التي قضت الأدلة الخارجة بخروجها من العموم المذكور مع أنها أدلة عقلية ونقلية لا يمكن دفعها ولا تأويلها، ويخصصون منه القرآن والإرادة والكراهة وسائر المعاني التي ادعوا قدمها مع الله تعالى مع أن الثلاثة الأُول قد قامت الأدلة القطعية عقليها ونقليها على أنها محدثة وعلى أنها من جملة أفعاله تعالى المخلوقة وتناولتها الأدلة عليها بخصوصها، وسائر المعاني قد قضت الأدلة أن لا وجود لها في الأزل كما مر تحقيق ذلك، فذرهم وما يفترون واحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون.(1/334)
وفي معنى الآية المذكورة وأصرح منها في الدلالة على العدل والتوحيد قوله تعالى: ?قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ? {فاطر:40}، فرتب سبحانه وتعالى الدلالة في هذه الآية على نمط استدلال المتكلمين في تقديم الدليل العقلي على السمعي، وقدم الأقرب إليهم وإلى قطع شغبهم فقال تعالى: ?أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ ?، لما كانت الأرض وما فيها أقرب إليهم، وأتى بما العامة لما يَعقِل وما لا يَعقِل ليتناول جميع المخلوقات ثم قال: ?من الأرض? ولم يقل في الأرض، ليفيد أن تلك الأصنام وغيرها مما ادعي إِلَهِيّتُه لم تخلق شيئاً لا في الأرض ولا من الأرض، ولم يجعل الكلام في ذلك مبنياً على مجرد الدعوى بل جعل معه دليله القاطع على صدقه بأن تحداهم وأرشدهم إلى الدليل النافع فقال: ?أروني ماذا خلقوا? فلما لم يروه شيئاً لا في الأرض ولا من الأرض مخلوقاً لآلِهَتِهم نقل الكلام في الحجاج إلى الأبعد عنهم وهو العالم العلوي فقال: ?أم لهم شرك في السماوات? أي أم هل لهم مشاركة في أحوال السماوات من إنزال الأمطار منها وتسيير الشمس والقمر والنجوم والبروج والأفلاك؟ ولما لم يكن شيء مما ذكر من الدلالة العقلية يكون لهم متمسكاً أرخى لهم العنان على ما هي القاعدة في المحاججة، فانتقل معهم إلى المطالبة بما معهم من الدلالة السمعية إن كان معهم شيء منها فقال: ?أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ?، ولما كانت الأدلة السمعية من حيث هي بين محكم ومتشابه وظاهر ومتأَوُّل وصريح واقتضاء وغير ذلك من أقسام الدلالة المذكورة في مواضعها بالغ معهم في إرخاء العنان، وقال ?فهم على بينة? وذكر(1/335)