الجميع أو ما هو مثله من المحالات كما أوضح الجميع عليه السلام بقوله [ ولو قَدَّرْنَا وقوع هذا الجائز ] أي المفروض جوازه، ومن هنا يعلم أن الدلالة مثبتة على التقدير كما مر في جواب ذلك السؤال.
فإن قيل: أليس إن التقدير المحال محال، فكيف يثبتون الأدلة على تقدير المحالات؟
قلنا: المحال هو وقوع المحال لا تقدير وقوعه، فقولهم: تقدير المحال محال. ليس على ظاهره بل مُؤَوَّل على تقدير مضاف، وهذا السؤال وجوابه قد علم من الأول إلا أنا استحسنا إيراده لأنه وارد على قولهم تقدير المحال محال. والأول هو وارد على قولهم: مقدور بين قادرين محال، زيادة في إزاحة ما يعرض من الإشكالات، [ و ]حينئذ فيقال: لو قدرنا ذلك [ لأدى ] هذا التقدير إلى وقوع [ مالا يجوز ] ولا يتصور في العقل وقوعه ولا صحته من أحد ثلاثة أمور كلها مستحيلة:
الأول: ما ذكره عليه السلام بقوله [ من اجتماع الضدين من الأفعال، ] المتنافية والمتناقضة بأن يريد أحدهما إيجاد شيء والآخر إعدامه، أو إحياء زيد والآخر إماتته، فيكون موجوداً معدوماً في حالة واحدة أو حياً ميتاً في حالة واحدة، وذلك محال لا يُتصور وقوعه في الخارج.
الثاني والثالث: [ أو عجز القديم عن المراد، ] وذلك أنَّا إن قدرنا أن كلاً منهما بلغت قادريته إلى منع الآخر عن إيجاد مراده لزم التمانع الذي فيه ارتفاع النقيضين، وارتفاع النقيضين محال كاستحالة اجتماعهما، وإن قدرنا أن أحدهما بلغت قادريته إلى منع الآخر، فذلك مع تقدير أن الآخر إله قديم مثله قادر على كل شيء محال أيضاً، فلا يمكن الانفصال عن لزوم وقوع أحد هذه المحالات إلا برفع القول المؤدي إليهما وهو الإله الثاني الذي أدى تجويزه إلى أحدهما.
ويرد على هذا سؤال بأن يقال: بأنهما حكيمان، فلا يصح تقدير اختلافهما فيجب أن يتفق مراداهما في وجه الحكمة، فلا يصح الاختلاف المبني عليه الدليل؟(1/326)
والجواب والله الموفق للصواب: أن وجوه المصلحة والحكمة قد تكون في بعض الأشياء متفقة بالنسبة إلى أوقات وأماكن متعددة كل منها مساو للآخر في الحكمة والمصلحة على سبيل البدل، وكذلك قد تكون المصلحة والحكمة متفقة ومستوية بالنسبة إلى أوصاف متضادة من سواد وبياض وحياة وإماتة، فحينئذ فلكل منهما أن يختار ويريد خلاف ما اختاره وأراده الآخر ولا يخرجه ذلك عن كونه حكيماً.
فإن قيل: فالتنافي واستحالة وجود مراد كل منهما وجه يجب لأجله أن لا يختلفا سيما مع كونهما حكيمين فالحكيم لا يريد المحال، فيجب أن يتفقا على ترك ما يؤدي إليه وهو الشجار ويفعلا ما رأيناه من هذا العالم معاً بالاتفاق، أو كل واحد منهما يفعل بعضه ولا منازعة ولا اختلاف.(1/327)
قلت: هذا السؤال هو أشد قادح يرد على هذا الدليل والقرشي والنجري رحمهما الله تعالى تكلما في السؤال الذي قبله، وجوابه بمعنى ما ذكرناه ولم يعقباه بهذا السؤال مع أنه مستنتج عما قبله، فإذاً لا يكمل الجواب عن السؤال السابق حتى يقرر الجواب على هذا السؤال اللاحق، فينبغي حينئذ تجديد النظر في كيفية الجواب على هذا السؤال، ويمكن أن يجاب عنه بأن يقال: لو قدرنا صحة ذلك لم يفترق الحال بين أن يسند العالم وإحداثه إلى فاعل واحد كما نقوله، أو إلى اثنين كما يقوله السائل وحينئذ فلا طريق إلى العلم بالفرق بينهما وتصحيح العلم بكونه عن اثنين إلا لو وجدنا بعضه يستحيل على الله تعالى أن يفعله، ومن المعلوم أنا لم نجد شيئاً في هذا العالم إلا وقد أمكن إسناده إلى الله، فإثبات إله غيره إثبات مالا طريق إليه، وفي ذلك فتح لباب الجهالات، ولا يصح أن يقال: يفترقان بالذات، لأن مع فرض كون الآخر مثله تعالى ليس بجسم ولا عرض لم يعقل بماذا ينفصل أحدهما عن الآخر؟ ولا بالجهة لأنها من توابع الجسم، ولا بالإرادة إذ لا دلالة على الاختلاف والافتراق فيهما إلا لو وجد الاختلاف والتشاجر، والسؤال مبني على عدمه فيسقط السؤال من أصله وينخلع الإشكال من مفصله، وقد أشار المؤلف عليه السلام إلى إبطال جميع المحالات اللازمة على سبيل البدل من تقدير إله آخر مع الله تعالى بقوله [ وكل ذلك ] من اجتماع الضدين أو عجز القديمين معاً أو أحدهما مع القول بتماثلهما وثبوت إلهية كل منهما [ محال، تعالى عنه ذو الجلال ]، وقد نبه الله سبحانه وتعالى عباده على إعمال هذا الدليل العقلي وأنه لابد من حصول الاختلاف والفساد مع القول بإله ثان [ بقوله ] تعالى: [ ? لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ? ]، قال في الكشاف: وصفت الآلهة بإلا كما توصف بغير لو قيل غير الله، وقال أحمد: معناه لو كان فيهما آلهة غير الله شركاء لفسدتا.(1/328)
قلت: يظهر من كلامهما أن غير ملاحظ معناها في المقام وحينئذ فيقال: فما النكتة في العدول عنها والتعبير بإلاَّ مع أن المعنى مع غير أوضح في إفادة المطلوب ولم يذكر تلك النكتة فلتتأمل، ويمكن أن يقال في ذلك، والله أعلم: إن في العدول إلى الإتيان بلفظ إلا الإشارة إلى المعنيين اللذين هما المقصودان من التوحيد والاستدلال بالدلالة عليه أحدهما: نفي إلهية جميع ماعدا الله تعالى، وثانيهما: إثبات إلهية الله تعالى، وهذان المعنيان لا تعطيهما غير لو عبر بها إلا إذا كانت استثنائية لا وصفية، فأما إلا فهي تعطيهما بكل حال لأنها لم توضع إلا للاستثناء فلا تخرج عنه، وإن أريد بها مع ذلك الوصفية فلا تنافي بينهما بخلاف غير فإنها قد يراد بها الوصف فقط من دون استثناء، تقول: هذا أمر غير عسير وغير ممتنع، ومنه قوله تعالى: ?عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ? {المدثر:10}، وقد يراد بها الاستثناء، فدلالتها عليه مع اتيانها لغيره محتملة ودلالة إلا عليه غير محتملة لارتفاعه فتكون الدلالة بإلاَّ قطعية وبغير ظنية، فعدل عن التعبير بغير إلى التعبير بإلا.
فإن قيل: فما ثمرة القول بأنها ضمنت الوصف معنى الاستثناء كما تفهمه عبارة الزمخشري أو أنها بمعنى غير كما هو صريح قول أحمد، وما الفرق بين قوليهما؟.(1/329)
قلت: أما الثمرة في ذلك والله أعلم، فلأنها لو لم تلاحظ فيها معنى غير لصار تقدير الكلام ?لو كان فيهما آلهة? ليس فيها الله ?لفسدتا? لكن فيهما آلهة معها الله فلم تفسدا، لأن لو تفيد امتناع مدخولها المثبت المقيد على حسب ما هو عليه من القيد وثبوته من دون القيد أو انتفاءه رأساً، ثم يترتب الجواب في الاستثناء بعدها بلكن بنقيض المذكور في جوابه لو جاءني زيد إلا راكباً، أو راكبا،ً أو غير راكباً لأكرمته، لكنه جاءني راكباً فلم أكرمه في الأول والثالث، أو لكنه جاءني غير راكب فلم أكرمه في الثاني، أو لكنه لم يجئني فلم أكرمه إن انتفى المجيء من حيث هو، ووزان ما نحن فيه من معنى الآية الكريمة هو، الأول لأنك استثنيت الإكرام حال مجيئه راكباً إن ثبت المجيء، فينتفي الإكرام من حال مجيئه راكباً أو لو عدم المجيء بأصله، فكذلك الآية لو لم يكن في إلا معنى غير وهو الوصفية، فينتفي الفساد في صورتين إذا ثبتت آلهة معها الله أو انتفى الجميع ويكون هذان المعنيين معلومي البطلان ولا يندفعان إلا بالقول بأن إلا ملاحظ فيها معنى غير وهو الوصفية أو هي بمعناها وهو الوصفية قيل فيها ذلك، وصار تقدير الكلام حينئذ: لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا، لكن ليس فيهما آلهة إلا الله فلم تفسدا.
وأما الفرق بين كلام الزمخشري حيث قال وصفت الآلهة بإلا كما توصف بغير لو قيل غير الله، وبين كلام أحمد أن معناه لو كان فيهما آلهة غير الله شركاء لله فربما يتوهم من ليس له تأمل ومعرفة بموارد الألفاظ أن ليس بينهما فرق ومعنى باهر، وذلك أن في عبارة الزمخشري يستفاد معنيان باهران ومطلوبان زاهران:(1/330)