وثانيها: لزوم الحاجة عليه تعالى إلى تلك المعاني، وقد مر أنه تعالى غني عن كل شيء.
وثالثها: لزوم المشابهة بينه وبين غيره من سائر الناس وبين سائر الحيوانات حيث كان فيه تعالى من المعاني ما فيها.
ورابعها: نقض التوحيد حيث كان تعالى بمنزلة الإنسان وبمنزلة القدرة والعلم والحياة لأن هذه الأشياء متعددة في نفسها، فمتى أثبتت لله تعالى لم يكن واحداً في ذاته بل مركباً من أمور متعددات.
لا يقال: إن قيام هذه المعاني بالإنسان لا يقتضي تعداده في نفسه بل هو إنسان واحد وإن تعددت فيه المعاني وقامت به، فكذلك الباري تعالى فلا ينتقض التوحيد في حقه تعالى بذلك.
لأنا نقول: إنما كان هذا لا يقتضي التعداد في الإنسان من حيث كونه إنساناً واحداً فلا يكون إنسانين فأكثر باعتبار تلك المعاني القائمة فيه، فأما كونه صار في ذاته باعتبارها غير متحد الأوصاف والماهيات التي قامت به، فليس بمتحد بل متعدد الأوصاف والأجزاء فهو بمنزلة أن لا يكون الباري تعالى إلهين اثنين فأكثر بل إله واحد، ولكنه في ذاته متعدد الأوصاف والماهيات القائمة به تعالى فلا يكون في ذاته واحداً من هذه الحيثية فينتقض التوحيد حينئذ سيما وقد صار اسم التوحيد أعم من نفي إثبات إله ثان معه تعالى، ونفي أن يتصف سبحانه بشيء من صفات المحدثات لذلك لا يسمى المشبه موحداً وإن جعله واحداً ونفى إلهاً ثانياً معه، وإما أن تجعل هذه المعاني مستقلة بنفسها ليست قائمة بذاته تعالى كانت منه بمنزلة الأجنبي فإن وصفت بقدم كانت آلهة غيره تعالى، وإن وصفت بحدوث كانت لا ثمرة في القول بها ولا قائل بذلك، فتأمل.
واعلم أن الكلام في هذا الفصل في طرفين: أحدهما: في أنه تعالى واحد. وثانيهما: في نفي إله ثان معه تعالى.
أما الطرف الأول: فقد مر تحقيقه فيما ذكر آنفاً.
وأما الطرف الثاني: فسيأتي تحقيقه وتقريره.(1/321)


قال أبو هاشم: والكلام في نفي إله ثان علم لا معلوم له وكذلك العلم بنفي الحاجة والرؤية وتشبيهه تعالى.
قال الإمام المهدي عليه السلام : وهو الحق وإِلاَّ لزم فيمن علم ذاته تعالى أن يعلم نفي الثاني.
وقال أبو علي: بل العلم بذلك علم بذاته تعالى.
قلت: هذا هو الأظهر، وما أبعد علم لا معلوم له فإنه كاد مما يلحق بالضروريات استحالة وجود علم لا متعلق له، ولعل حجة أبي هاشم أنا لو جعلنا العلم بنفي الثاني علماً له معلوم يتعلق به العلم، فأما ذاته تعالى لزم ما أورده الإمام عليه السلام أن من علم الذات علم نفي الثاني، وأما ذات ذلك المنفي لزم ثبوتها إذ لا يتعلق العلم إلا بثابت، ولا قائل بثبوت ذات الثاني، وإلاَّ انتقض المقصود من عقد المسألة، ولأن القائلين بثبوت الذوات في القدم إنما يقولون به فيما علم الله به أنه سيوجد وليس هذا منه، وأما أن يتعلق بغيره تعالى من سائر الموجودات فهو إذاً متعلق بما هو أجنبي عن الباري تعالى وعن الإله المنفي فيصير كالعلم بأن زيداً مثلا ليس بأعمى ولا أعرج هو نفس العلم بأن عَمْراً أعمى وأعرج وهذا معلوم البطلان، فإذا بطلت الثلاثة التقادير ولا رابع لها ثبت أن العلم بنفي التشبيه ونفي الثاني علم لا معلوم له.
ويمكن الجواب على هذا بأن يقال: ما أنكرتم أن العلم بنفي الثاني ونفي التشبيه يتعلق بذاته تعالى على الخلق عن المشابهة، وعن جواز إله ثان، ولا يلزم ما ذكرتم أن من علم ذات الباري علم نفي الثاني سيما على أصلكم في المسألة التي ذكرتموها قبل هذه أنه يصح أن يعلم الله من وجه ويجهل من وجه آخر، فهلا قلتم: يصح أن يعلم ذات الباري تعالى من لم يكن قد نظر في نفي الثاني ونفي المشابهة، ومتى نظر فيهما وعلمهما كان علماً بالله تعالى من الوجه الآخر فيتعلق العلم حينئذ بذاته تعالى، وقد صحح هذا النجري رحمه الله تعالى، وحكى رجوع الإمام عليه السلام إليه.(1/322)


وبعد فما أنكرتم من تصحيح الاعتبار الثالث وهو أن يتعلق العلم بنفي المشابهة ونفي الثاني بغيره تعالى من سائر الموجودات بأن يقال: هو علم يتعلق بجميع الموجودات من أنه لا يشابهه تعالى شيء منها ولا يصح أن يكون شيء منها معه إلهاً آخر، وهذا وجه صحيح لا مانع منه ولا بعد فيه إلا أن الكلام لما كان في مسائل التوحيد مسوقاً للعلم بالله تعالى.
قلنا: إن ما ذكره أبو علي هو الأظهر. إلحاقاً لها بين المسألتين وهما نفي مشابه له تعالى ونفي إله ثان بمسائل الباب، ولأنه السابق إلى الفهم عند تحرير الكلام فيهما.
إن قيل: أليس أن العلم باستحالة الجمع بين الضدين والنقيضين علم لا يتعلق بمعلوم، إذ لا وجود للضدين والنقيضين ولا ثبوت لهما عند مثبتي الذوات في العدم، وإذا كان كذلك فكذلك فيم ذكرنا من المسألتين المذكورتين.
قلنا: لا نسلم أنه علم لا معلوم له، فإن العلم باستحالة الجمع بين الضدين والنقيضين مركب من العلم بوجود أحد النقيضين أو الضدين وعدم إمكان مجامعة نقيضه أو ضده له، فصار علماً متعلقاً بمعلوم له موجود أحد شقيه معلوم انتفاء الآخر عنه، وهذا واضح، ولا يقال لا جدوى تحت هذه المباحث، فإن الكلام لا يخلو عن الإفادة ولا يقوى على استخراج المقاصد والمسائل إلا من أتعب نفسه في المبادي والوسائل، ولا يظفر بالدر الخالص إلا من غاص مع كل غائص، ومن زهد عن الاصطياد من الخضم الصافي كان صيده ماجزره البحر من الميت الطافي.
ماذا على من نالَ أسبابَ العُلَى .... أن أتعبَ الكَفَّينِ في إمساكِها
حتى ارتقى العَلْيَا وصارت ذاتُه .... فوق الأُوْلَى ظَنُّوه في إنهاكِها
وغدا وقد نالَ المُنَى من بعدِ أنْ .... زال العنا قد حَلَّ فوقَ سِماكِها(1/323)


ثم أخذ عليه السلام في الاستدلال على أنه تعالى لا ثاني له في الإلهية بدليل العقل، وأردفه فقال [ لأنه ] والضمير يعود إلى الشان [ لو كان معه ] سبحانه وتعالى [ إله ثان لوجب ] لهذا الإله الثاني المفروض [ لهذا الذي اختص بها، ] ولعل صواب العبارة الذي اتصف بها لأنه مع تقدير وجود الثاني واتصافه بها لا اختصاص، لكنه قد تسومح عند أهل الفن أن يريدوا بالاختصاص مطلق الاتصاف فلا مشاححة، والحد الذي اتصف بها هو أنه قادر على جميع المقدورات عالم بجميع أعيان المعلومات، حياً دائماً لم يزل ولا يزول ويكون ذلك لذاته كما مر تحقيق جميع هذه الأطراف [ ولو كان كذلك لكان ] الإله الثاني المفروض ثبوته [ على ] كل [ ما قدر عليه ] الله سبحانه [ قادراً، ] فيكون كل مقدور لله سبحانه مقدوراً لهذا الإله الثاني لأن كلا منهما والحال ما ذكر قد صار قادراً لذاته فلا يختص بمقدور دون مقدور.
ويرد هاهنا سؤال تنهد له أركان هذا الاستدلال ويضعف معه التعويل على مجرد الإجمال حتى يعرف جوابه بالتحقيق والاستقصار وهو أن يقال: إن من أصولكم أو أكثركم إحالة مقدور بين قادرين، فَلِمَ جعلتم الاستدلال هاهنا مبنياً على صحته فقلتم: لو كان ثمة إله ثانٍ لكان قادراً على جميع ما قدر عليه الله، وهلا قلتم: إن هذا التقدير محال، ومع تقدير كونه محالاً فغاية الدلالة أن هذا العالم مقدور لله تعالى فلا دلالة في هذا الدليل على نفي إله ثان ومقدور ثان، فلا يتم الدليل المذكور لمطلوبكم؟.(1/324)


والجواب والله الهادي إلى أوضح المبادي وأوفق المقاصد للبادي أن يقال: إنما المحال في مسألة مقدور بين قادرين على القول به وقوع ذلك المقدور وبروزه إلى الخارج كذلك بمعنى أنه صادر منهما معاً كما ستعلم ذلك من كلام المؤلف عليه السلام الآتي في تمام الاستدلال، والاستدلال المذكور في صدر المسألة مبني على التقدير دون الوقوع ولا فرق في صحة الأدلة بين أن تبنى على الوقوع أو على التقدير سيما فيما كان المطلوب فيه من الاستدلال هو النفي لما يدعي الخصم إثباته، ألا ترى أن الاستدلال على نفي الحاجة مبني على تقدير وقوع الحاجة في حقه تعالى يلزم منه جواز المنفعة والمضرة عليه سبحانه ولم يكن مبنياً على وقوع الحاجة، وكذلك الاستدلال على نفي الظلم عنه تعالى مبني على أنا لو قَدَّرْنا وقوع الظلم منه تعالى لدل على الجهل بقبحه أو الحاجة إلى فعله، فجعلنا الدلالة مبنية على تقدير وقوع الظلم لأنه يعود من الغرض المقصود نفيه إلى إثباته فلا يستقيم تحرير الاستدلال على التقدير دون الوقوع، فكذلك مسألتنا هذه نقول فيها: إن الدليل مبني على تقدير أن كلما قدر عليه الله تعالى فالإله الثاني قادر عليه، ثم يستدل على صحة هذا التقدير بأن نقول: إن هذا الإله الثاني يجب أن يكون قادراً لذاته وإلاَّ خرج عن كونه إلهاً، هذا خلف فلا بد أنه قادر لذاته، ثم نقول ومن شأن القادر لذاته أن لا يعجزه شيء فيجب أن يقدر على كل ما قدر عليه الله سبحانه [ ولو كان كذلك لجاز عليهما التَّشاجر والتَّنازع، ولصح بينهما التَّعارض والتَّمانع، ] إذ من شأن من قدر على شيء أن يفعله إذا علم المصلحة في فعله على الوجه الذي تعلقت المصلحة بفعله من الاختصاص بوقوعه على صفة دون صفة ووقت دون وقت ومكان دون مكان، فيصح أن يريد أحدهما وقوعه على وجه أن يريد الآخر وقوعه على الوجه الآخر، فيؤدي ذلك إلى التشاجر والتعارض والتنازع المفضي إلى ما هو المحال بالذات، وهو التمانع وعجز(1/325)

65 / 311
ع
En
A+
A-