أما الثنوية: فهم الذين يقولون: بأن فاعل العالم وما فيه من الخير والشر اثنان، كالمجوس يعبرون عن الباري تعالى بيزدان وقالوا: كل خير واقع منه بالطبع لا بالإرادة والاختيار، ويعنون بالخير الأمور الملائمة كالفواكه والملاذ والصور المستحسنة والمحبوبة، ويعبرون عن الثاني بإهرمن وهو الشيطان عندهم وقالوا كل شر واقع منه بالطبع لا بالإرادة والاختيار، ويعنون بالشر الأمور المنافرة كالسموم والمضار والصور المستكرهة والقاذورات ونحوها، قالوا: ويزدان ممدوح على ما فعل ومحمود على ذلك وإن كان بطبعه، وإهرمن مذموم على ما فعل وإن كان بطبعه، وكل واحد منهما لا يقدر على ترك ما فعله ولا على فعل العكس منه، ثم اختلفوا فيهما بالنسبة إلى القِدَم والحدوث، فأكثرهم: أنهما قديمان معاً،وقال بعضهم: بل إهرمن حدث من يزدان فقيل: من فكرة ردية حدثت معه، وذلك أنه تفكر في نفسه وقال: لو كان لي منازع كيف كان الحال؟ فحدث الشيطان من تلك الفكرة وقال: ها أنا منازع، فاقتتلا وجرت بينهما وقائع ثم اصطلحا على المهادنة وشروط ستنقضي ويَغلِب يزدان، قالوا: ونحن الآن في مدة الهدنة، ومنهم من قال: حدث من عفونات الأرض، وكأهل النور والظلمة قالوا: كل خير فمن النور وكل شر فمن الظلمة على نحو قول المجوس في إهرمن ويزدان، وقيل: إن المجوس يجعلون يزدان هو النور وإهرمن هو الظلمة، وإن العالم ممتزج من النور والظلمة وإنهما غير متناهيين إلا من جهة التلاقي، ثم اختلفوا، فقالت المانوية: هما قديمان قادران عالمان حيان. وقالت الطيسانية بذلك في النور فقط، وأما الظلمة فعاجزة جاهلة موات. وقالت المزدكية: النور يفعل بالقصد والإرادة والظلمة بالخبط، وأثبت المرقيونية ثالثاً امتزج العالم منه ومن الظلمة قالوا: فلما رأى النور تعدى الظلمة إلى هذا المتوسط بعث إلى هذا العالم الممتزج روحاً وهو ابنه عيسى، ومرقيون هذا لحق بعض أصحاب عيسى وأخذ عنه.(1/316)


وأما النصارى: فأثبتوا ثلاثة كما حكى الله عنهم ذلك بقوله: ?لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ? {ٍالمائدة:73}، قال أهل المقالات في تفصيل قولهم بالتثليث: إنهم اتفقوا على أن الله جوهر واحد وهو ثلاثة أقانيم، أقنوم الأب: وهو الذات المقدسة وقيل الوجود، وهو متقارب، لأن الوجود عندهم هو الذات كما يقوله أصحابنا الذين ينفون كون الوجود صفة زائدة على ذات الموجود، وقد مر أنه الصحيح من تلك المسألة، وأقنوم الابن: وهو الكلمة وقيل: العلم، وأقنوم روح القدس: وهو الحياة، واتفقوا على أنه لم يزل الأب أباً والابن ابناً وروح القدس فائضة بينهما لم تزل كذلك.
قلت: هذا حكاه أهل المقالات في كيفية تفصيل التثليث، ويعلم منه أنهم يقولون بقدم الكلمة أو العلم وقدم الحياة حيث قالوا: لم يزل الابن ابناً الخ، ومنه يعلم صحة ما قاله الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام وغيره من الأصحاب الذي مر في مسألة نفي المعاني القديمة التي أثبتها الأشعرية وغيرهم من فرق المجبرة أنهم يعنون بتلك المعاني ما عنته النصارى بتلك الأقانيم، ولعل أن معنى الأقنوم: الأصل الثابت وجوده في الأزل، ولكن ظاهر الآي القرآنية فيما حكاه الله عنهم أن التثليث الذي قالت به النصارى هو باعتبار ذات الباري تعالى وعيسى بن مريم عليهما السلام حيث يقول سبحانه: ?وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ? {التوبة:30}، وقال ? لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ? {المائدة:17}، وقال ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ الله? {المائدة:116}، وحينئذ فلا يتحقق اتحاد القول بين النصارى والمجبرة.(1/317)


فإن قلت: فكيف تصنع بنقل أهل المقالات في كيفية التثليث إذا حملته على هذا الوجه المأخوذ من ظاهر الآي، بل صرائحها قاضية به مع أن ذلك النقل لا منازع لهم فيه وإجماع أهل كل فن حجة فيما أجمعوا عليه؟
قلت: أما كونهم أجمعوا عليه فلم ينقل في ذلك إجماع وإن لم يوجد منازع، لكن إذا قدرنا صحة ما نقله أهل المقالات سيما وفيهم من أئمة الهدى من لا يسعنا رد ما نقله على غير علم منا ببطلانه، فهو لا يمتنع صحته مع صحة ما قضت به تلك الآيات الكريمة من كيفية التثليث المقطوع بصحته عن النصارى على الجملة بقوله تعالى: ?لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ?، لأنه لا تنافى بين أن تقول النصارى بالتثليث باعتبار الجهتين المذكورتين فقالوا به باعتبار إثبات ذات الباري تعالى واثبات الكلمة أو العلم واثبات الحياة، ثم قالوا به ثانياً باعتبار اثبات الباري تعالى، ثم ادعوا مع ذلك إلهية عيسى ومريم عليهما السلام.
وأما الصابئون: فزعموا بعد تسليمهم أن للعالم صانعاً واحداً أنه خلق الأفلاك حية قادرة عالمة وجعلها آلهة فعبدوها وعظموها وسموها الملائكة، وجعلوا بيوت العبادة بعده السبعة الأفلاك.(1/318)


إلزام المجبرة أن لا يكون الله تعالى واحد
وأما إلزام المجبرة: فقد ظهر مما مر حسبما نقله أهل المقالات عن النصارى، فيلزمهم أن لا يكون تعالى واحداً بل ثالث ثلاثة بل سابع سبعة أو ثامن ثمانية حيث أثبتوا الكلام المعبر عنه عند النصارى بالكلمة، وأثبتوا العلم والقدرة والحياة المعبر عنهما عند النصارى بروح القدس، واثبتوا الإرادة والكراهة فهذه ستة معاني اتفقت عليها جميع المجبرة، ومنهم من زاد الوجود وجعله صفة زائدة على ذات الباري تعالى واتفقوا على قدمها مع الله تعالى، فكان بهذه المثابة سابع سبعة أو ثامن ثمانية سيما مع جعلهم كل واحدة من هذا الستة أو السبعة معنى ليس هو الأُخر فيتحقق التعداد حينئذ، لكنهم يفرون عن هذا بأن يقولوا: ولا غيره، ويحكى عن النصارى أنهم يقولون في تلك الأقانيم: أنها ليست بمستقلة بنفسها ولا يصح انفراد بعضها عن بعض، وهو بنفسه عين مذهب المجبرة في تلك المعاني، قال القرشي رحمه الله ما لفظه: يزيده وضوحاً أنه لم يقل أحد من الناس إن لله تعالى ثانياً يشاركه في جميع المشاركة، وإنما يقولون بالمشاركة في كونهما واجبي الوجود، والمجبرة إما أن يجعلوا هذه المعاني جائزة الوجود فيلزم حدوثها لأن هذا هو دليلهم على حدوث العالم، وإما أن يجعلوها واجبة الوجود من ذاتها وهو مذهب الثنوية، وإما أن يجعلوها واجبة الوجود من غيرها وهو مذهب الفلاسفة في العقول والأفلاك. قال رحمه الله تعالى: ومتى قيل: إن الثنوية اعتقدوا استحقاق الثاني للعبادة؟ قلنا: ليس كذلك يعني كلهم، فإن المجوس لا يعبدون إهرمن، وكذلك سائر الثنوية لا يعبدون الظلمة، وكذلك الفلاسفة لا يقولون باستحقاق العقول والأفلاك للعبادة، وإنما عيب عليهم القول بقدمها إلى أن قال رحمه الله تعالى: وبعد، فلم يذمهم الله على مجرد القول باستحقاق العبادة ألا ترى إلى قوله تعالى: ?قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ? {يونس:68}، فبين(1/319)


أن هذه المقالة تقتضي جواز الحاجة عليه تعالى وهذا لازم للمجبرة كما سلف انتهى كلامه والمسك ختامه.
قلت: ويزداد الإلزام للمجبرة في نقض التوحيد اتضاحاً ويكشف وجه معتقدهم الباطل افتضاحاً، وينشق الحق الذي عليه أئمتنا عليهم السلام وموافقوهم في نفي المعاني القديمة إصباحاً بأن يقال: هذه المعاني إما أن تُنْفَى ماهياتها الحقيقية عن ذات الله تعالى وتثبت له النتيجة المقصودة من إثبات تلك المعاني وهو أنه تعالى قادر لا يعجزه شيء، وعالم لا يخفى عليه شيء، وحي دائم لا يموت، ولم يزل ولا يزول عن ذلك الاتصاف، فهذا هو مذهب أئمتنا عليهم السلام وأتباعهم الزيدية والمعتزلة جميعاً وهو لا يعتريه ريب، غير أن مِنْ أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم من يجعل الاتصاف بتلك النتيجة أن كونه لا يعجزه شيء وكونه لا يخفى عليه شيء وحي دائم أموراً ومزايا وصفاتاً، ثم قالوا: لا توصف. إذ لا توصف عندهم إلا الذوات كما مر تحقيق أقوالهم وترجيح ما عليه جمهور أئمتنا ومن وافقهم من عدم القول بذلك، وإما أن تثبت ماهياتها الحقيقية، فإما أن تجعل قائمة بذات الباري تعالى كما هو مصرح به في أقوال المجبرة، فمع القول بقدمها كما هو مصرح به في أقوالهم أيضاً يلزم أن تكون ذاته المقدسة مركبة من متعددات بالذات مختلفة بالماهيات، فيكون حينئذ تعالى عن ذلك ذاته المقدسة بمنزلة الجسد من الإنسان، وتكون القدرة والعلم والحياة بمنزلة هذه المعاني في الإنسان وبمنزلة الناطقية والإرادة والكراهة منه، وهذا عند النظر والتحقيق باطل من وجوه:
أحدها: لزوم التركيب المفتقر إلى فاعل حكيم قدير عليم حي متقدم عليه تعالى، فأما هو سبحانه وتعالى لزم المحال من حيث أن يلزم أن يكون تعالى بعض مخلوقاته، وأما غيره فهو أبعد لاستلزام فاعل غيره قادر عليه عالم حي قديم، ويرد السؤال في كيفية اتصافه بهذه الصفات ويتسلل ولا ستلزام كونه تعالى مقدوراً لغيره.(1/320)

64 / 311
ع
En
A+
A-