قلنا: معارض بأكثر منه وأصرح دلالة وأعدل رواية كما مر نقل ذلك، ولانعقاد إجماع العترة الطاهرة شموس الدنيا وشفعاء الآخرة على عدم رؤيته تعالى، وظاهره يقتضي التجسيم والتشبيه المجمع على بطلانه لاستلزامه أن يكون تعالى في جهة العلو وفي شكل الاستدارة وعلى صفة الإنارة، وكل ذلك أوصاف تفتقر إلى محدث يجعلها له تعالى، ثم إن سلمنا الحديث فقد فرض أئمتنا عليهم السلام وأتباعهم تأويلاً له حذاراً من رد السنة النبوية على صاحبها وآله أفضل الصلاة والسلام بأن معناه: ستعلمون ربكم كما تعلمون القمر ليلة البدر والرؤية بمعنى العلم كثير ?أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ? {الفيل:1}،?أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل? {الفرقان:45}، وقال الشاعر:
رأيتُ الَلهَ أكبرَ كُلَّ شَيءٍ .... محاولةً وأكثرُهُم جُنْودَا
ثم يقال لهم في قولهم: يُرى بلا كيف. فهل تميزونه عن غيره أم لا؟ إن قلتم: نعم. قلنا: وبماذا يميز وقد قلتم بلا كيف؟ وإن قلتم: لا. قلنا: فهو إذاً باق في حيز المجهول الملتبس بكل مرئي، وقد قال الحقير غفر الله زلته مشيراً إلى هذا المعنى وإلى غيره من ضلالات القوم:(1/311)


قل للذين تنكبوا سُفُنَ النَّجَا .... وأتوا بقولٍ مُشْبِهٍ للفلسفهْ
زعموا بأن اللهَ جَلَّ جَلاَلُهُ .... في الحشر تُدرِكُه العيونُ المُطْرِفَه
ويُرى بلا كيفٍ وهذا باطلٌ .... يَعرِفُه كلٌّ من صحيحِ المعرفَه
أوما علمتم أن ذا متناقضٌ .... تَبَّاً لكم من معشرٍ كم ذا السفه؟
أوليس أن الطَّرفَ قطعاً لا يَرى .... إلا جَسِيْماً مُحدَثاً فيه الصِّفَه؟
أوما فهمتمْ ما نفى في قولهِ .... لن ثم لا وحديثُ تلك القَفْقَفَه؟
أوليس أخبر أن قوماً أُصعقوا .... لسؤالهم موسى وظُلْماً أَرْدَفَه؟
ولهم من الأقوالِ كم من فريةٍ .... كالجبرِ والإرجاءِ وكم يا عَجْرَفَه
والقولُ أن الآلَ ليسوا حجةً .... إن أجمعوا أين العقولُ المُنْصِفَه؟
فاركبْ سفينةَ نوحٍ إن رُمْتَ النَّجَا .... أهلُ البصائرِ والعقولِ العارِفَه
واثْنِ الصلاةَ مع السلامِ عليهمُ .... من بعدِ طه كي تَفُزْ في مَوْقِفِه(1/312)


فصل في الكلام في أن الله واحد وأنه لا إله إلا هو سبحانه وتعالى
وهذه المسألة آخر مسائل التوحيد، وبها سمي علم التوحيد لكنه أطلق على سائر مسائل التوحيد التي مر ذكرها لما كان جميع ذلك لا يكمل الإيمان بالله تعالى ويُعَد الإنسان موحداً إلا بمعرفة الجميع، فأطلق على الجميع علم التوحيد فهو اصطلاح عرفي خاص.
والتوحيد في أصل اللغة: مصدر وحَدْتُ الشي أُوحِّده إذا جعلته واحداً بالقول كوحَّدْتُ الله، أو بالفعل كوحدت الشجرة إذا قطعت جميع أغصانها ولم يبق إلا واحداً، فإن أبقيت الخيار من الأغصان كان تهذيباً.
وهو في العرف المصطلح عليه بين علماء الكلام: العلم بالله تعالى، وما يجب له من الصفات والأسماء، وما لا يجوز عليه منها.
والواحد في أصل اللغة: أول مراتب العدد يقال واحد اثنان إلى ما بعده، وهذا لا يجوز إطلاقه على الله تعالى بهذا المعنى إذ لا مدح فيه، ولا يجوز على الله تعالى إلا ما تضمن مدحاً، قال أمير المؤمنين عليه السلام : واحد لا بعدد، قائم لا بعمد، دائم لا بأبد.
ويطلق الواحد على الجوهر الفرد وهو الذي لا يتجزأ، وهذا لا يجوز إطلاقه على الله تعالى لعدم تضمن المدح ولأنه في نهاية الحقارة، خلافاً لأبي علي فأجازه على الله تعالى نظراً إلى أن كونه لا يتجزأ صفة مدح وهي صادقة عليه تعالى.(1/313)


قلنا: مع مشاركة الجوهر الفرد له تعالى في ذلك الوصف فلا مدح، ويطلق على المتصف بصفات الكمال على وجه تقل المشاركة له فيها يقال: فلان واحد عصره ووحيد دهره، وهذا أيضاً لا يجوز إطلاقه على الله تعالى لإفادته المشاركة، وإن كانت على وجه القلة فذلك لا يجوز، ويطلق على المتصف بجميع صفات الكمال على وجه يستحيل أن يشاركه فيها غيره على الحد الذي اتصف بها، وهذا هو المراد من المسألة ومن الحصر في قولنا في الدعاء: اللهم أنت الواحد - أي لا غيرك -. قلنا: بجميع صفات الكمال، يمحترز من الاتصاف ببعض منها، فإنه لو اتصف عز وجل ببعض منها لم يكن هو الإله ولم يكن من وصفه بذلك موحداً، وقد مر أنه قادر على كل المقدورات، وعالم بكل المعلومات، وحي دائم لم يزل ولا يزول، وقلنا: على وجه يستحيل أن يشاركه فيها غيره الخ، ليس القصد به الاحتراز لمصيره تعالى واحد عن الاتصاف بها على وجه لا يستحيل معه المشاركة فإنه تعالى يوصف بأنه واحد، ولو انتفى المشارك انتفى جوازاً كما في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا انتفى أن يشاركه فيها غيره فهو نبي واحد مع أن نفي نبوة غيره جوازاً بمعنى لا يستحيل أن يوحي الله إلى غيره فيكون نبياً، فعرفت أن القيد المذكور ليس للاحتراز في مصيره تعالى واحداً، لكن لما قامت الأدلة القاطعة على أنه يستحيل وجود مشارك له فيها على الحد الذي اتصف بها لزم ذكره للتنبيه على وجوب اعتقاد ذلك، وللإفادة أن من لم يعتقد ذلك فليس بموحد، وقلنا: على الحد الذي اتصف بها. نعني به من كونه قادراً لذاته لا لفاعل ولا لعلة ولا لمعنى وعالم لذاته وحي وموجود وسميع وبصير كذلك، فذكر للاحتراز عما لو فرض أنها لشيء مما ذكر لما يكن واحداً لأن غيره كذلك من سائر القادرين والعالمين فليس هذا كالقيد الذي قبله في هذا الاعتبار.(1/314)


هل يكون العَامْيّ وعلماء المخالفين خارجين عن التوحيد
إذا عرفت ذلك فالقول: بأن الله تعالى واحد. مما لا خلاف فيه بين طوائف الإسلام، ولا يختلف في العلم بأنه تعالى واحد منهم اثنان، والعالم والعامي الصرف يعتقد كل منهما أنه تعالى واحد، ولكن إذا كان حد الواحد هو ما ذكر فمن المعلوم أن العامي لم ينظر في الأدلة الموصلة إلى العلم بأنه تعالى واحد بالمعنى المذكور في ذلك،وكذلك من المعلوم أن علماء المخالفين الذين أثبتوا المعاني القديمة لم يكونوا على الاعتقاد المذكور في ذلك الحد، فهل يكون العامي وعلماء المخالفين خارجين عن التوحيد أم لم يخرجوا عنه، فكيف تصحيح ذلك وهم بمعزل عما هنالك؟
والجواب وبالله التوفيق: أن يقال أما العامي فلا يخرج عن كونه موحداً لأنه قد أتى بما يجب وهو اعتقاد أنه تعالى واحد لا ثاني له ولم يأتِ باعتقاد ينافيه، وغايته أنه جهل ما هو لذلك الاعتقاد بمنزلة التتمة والتفصيل في ذلك فلا يمتنع سقوط وجوبه عليه، وإنما هو فرض العلماء ليدفعوا به شبه أهل الإلحاد والاعتقادات الفاسدة من بعض فرق الإسلام، وقد نص علماء الكلام أن رد شبهة المخالف ومعرفتها من فروض الكفايات على العلماء فقط ولا تكليف على العوام فيها ما لم تقدح عليهم وجب النظر لدفع ما يقدح، وأما علماء المخالفين فالكلام في شأن بقائهم على التوحيد مع ذلك الاعتقاد أو خروجهم عنه لأجله مما وقع الخلاف فيه بين أئمتنا عليهم السلام وأتباعهم ممن ينفي المعاني على نحو ما هو مبسوط في محله في هذه المسألة في المطولات، فمن أراد الاطلاع على ذلك فعليه بما هنالك، وليس هذا موضع تلك المسألة فلا نخرج بها عما نحن بصدده.
قال عليه السلام [ فإن قيل: ] لك أيها الطالب الرشاد [ أربك واحد أم لا؟ فقل: ربي واحد لا ثاني له في الجلال، متفرد بصفات الكمال، ] والخلاف في ذلك مع الثنوية والنصارى والصابئين، وأُلزمت المجبرة أن لا يكون تعالى واحد.(1/315)

63 / 311
ع
En
A+
A-