والتحقيق: أنه عليه السلام لما أكثر قومه السؤال وعلقوا إيمانهم على الرؤية استعجل في الرد عليهم قبل المؤاذنة، فكانت منه خطيئة كما يصدر من سائر الأنبياء عليهم السلام نحوها من الصغائر [ فلما لم يقع منه عليه السلام خطيئة إلا سؤاله لهم الرؤية من دون ] تقدم استئذان ولا انتظار وحي يقع معه [ إذن، ] من الله أو مَنْع، اعتذر عليه السلام بالتوبة [ قال لربه عز وجل ] ? رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ [ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ]?، وفي آية أخرى ? أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ? {الأعراف:173}.
وأما السنة: فأخرج أبو القاسم الكعبي في السنة وابن ناجية الأصفهاني عن أبي الزبير عن جابر قال صلى الله عليه وآله وسلم: " اعلموا أنكم لن تروا الله في الدنيا والآخرة "، وفي لفظ الفقيه حميد اعلموا.
وأخرج الرَّامَهُرمزي والحاكم أبو سعيد عن سمرة بن جندب: " أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل نرى ربنا في الآخرة؟ فانتفض ثم سقط فلصق بالأرض وقال: "لا يراه أحد ولا ينبغي لأحد أن يراه ".
وروى أبو رشيد مرسلاً عنه صلى الله عليه وآله وسلم: " لن يرَ الله أحد في الدنيا والآخرة ".
وروى المؤيد بالله عليه السلام مرسلاً عن أبي ذر قلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هل رأيت ربك؟ فقال: " نور هو أنَّا أره " قال المؤيد بالله عليه السلام معناه: نور هو لا أراه.
وأخرج أبو رشيد في الخلافية: أخبرنا عمران بن أحمد أن النيسابوري وأبو بكر المقري، قالا أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى بن عيسى بن هلال الموصلي قال: حدثنا محمد بن المنهال عن عمر بن حبيب عن خالد الحذاء عن أبي ذر فذكره، وأخرجه أبو يعلى والسيد محمد بن يحيى.(1/306)


وأخرج البخاري والترمذي والحاكم وأبو سعيد عن عائشة أنها سُؤِلت هل رأى محمد ربه؟ قالت: يا هذا لقد قُفَّ شعري مما قلت، ثلاثاً من حدثكهن فقد أعظم على الله الفرية من قال: إن محمداً رأى ربه، والله تعالى يقول: ?لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ?الخ الخبر. ذكر هذا كله شيخنا صفي الإسلام رحمه الله في السمط، ونقل عن أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء صلوات الله عليهما وابن عباس وزين العابدين عليه السلام ومجاهد والحسن وغيرهما من التابعين صريح أقوالهم بنفي الرؤية في الدنيا والآخرة، فلا نطيل الكلام بذكره فليؤخذ من ذلك الكتاب.(1/307)


بعض شبه المخالفين حول الرؤية عليها
تتمة نذكر فيها بعض شبه المخالفين، فمنها: من جهة العقل أنهم قالوا: هو تعالى موجود فتصح رؤيته.
قلنا: لا نسلم أن كل موجود تصح رؤيته، أوليس أن كثيراً من الموجودات لا تصح رؤيته كالقدرة والعلم والحياة والعقل والروح ونحوها؟!.
والتحقيق: أن الوجود ليس هو المصحح لرؤية المرئيات وإلا لزم رؤية كل موجود، وإنما المصحح لرؤية المرئي صفته الذاتية من كونه جسماً كثيفاً أو لوناً لا غير، لذلك انقصرت الرؤية عليهما دون سائر الموجودات، وهذا واضح بلا ريب.
قالوا: القول برؤيته تعالى لا يستلزم حدوثه تعالى، فلا محذور في ذلك، فيجب القول بصحتها.
قلنا: والقول بنفي صحة رؤيته تعالى لايستلزم حدوثه تعالى، فلا محذور، فيجب القول بنفي صحتها فيقتضي القولان وقوع التناقض وهو محال، فلا بد من إبطال أحدهما وبقاء الآخر والجزم بصحته وثبوته، فنقول قولكم: لا يستلزم حدوثه، غير مسلم لأن الرؤية هي تعلق البصر بالمبصَر، ومن المعلوم أن ذلك التعلق يستحيل بلا متعلق فلا بد له من متعلق إما ذاته المقدسة كانت إذاً مُعترضا لحدوث الإبصار والإدراك، وما كان معترضاً لحدوث الحوادث كان محدثاً لأن هذا هو الدليل على حدوث الأجسام لما كانت محلاً ومُعترضاً لحدوث الأعراض، وإن كان المتعلق غير ذاته المقدسة كان المرئي غيره بخلاف ما قلناه من نفي الرؤية فلا يتطرق إليه شيء يقتضي الحدوث، وإذا كان نقيضه يقتضي الحدوث كما أوضحناه وجب القول به ولزم الجزم باستحالة رؤيته تعالى بكل حال، ولا يمكن فيما قالوه لو سلمنا على التنزل أن الرؤية لا تدل على الحدوث حصول نتيجتهم المطلوبة وهي وقوع الرؤية لأن غايته صحة الرؤية لا وقوعها، إذ ليس كلما صحت رؤيته وقعت عليه وإلاَّ لزم في كل مرئي أن تقع عليه رؤية كل راءٍ والمعلوم خلافه، ولهذا اعترف نقادهم أنه لا دلالة من جهة العقل على وقوع الرؤية وقصروا الاستدلال على السمع فقط.(1/308)


وقال الرازي في مفاتيح الغيب عند تفسير قوله تعالى: ?لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ? مستدلاً على الرؤية من جهة العقل: إن القول برؤيته تعالى يؤدي إلى العلم اليقيني بوجوده تعالى وحقيقته، فيجب القول بذلك.
قلنا: وسائر الحواس الخمس توصل إلى العلم بوجود سائر الموجودات، فيجب القول بأنه تعالى يدرك بالحواس الخمس، إذ ذلك أبلغ من اليقين بوجوده تعالى فيكون تعالى مطعوماً وملموساً ومشموماً ومسموعاً ومبصراً، والعجب كل العجب من مثل هذا التحرير يصدر من مثل ذلك النحرير لولا اتباع الأسلاف، وإلا فالمعلوم بالضرورة اليقينية أن البعث والإعادة لجميع الخلق إلى عرصة المحشر ومشاهدة الجنة والنار وجميع أهوال القيامة ملجي إلى العلم الضروري بالله تعالى وبوجوده سبحانه، فلا حاجة إلا ارتكاب نحو هذه الخرافة، ولكل جواد كبوة ولكل صارم نَبْوَة، ولقد كان يكفيه الاعتراف كغيره من الأشاعرة أنه لا دلالة في العقل ويقتصر في دعواه على ذلك المذهب الباطل والاعتقاد العاطل على السمع.
وأما شبهتهم من جهة السمع:
فقالوا: قال تعالى: ? وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ o إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ?، ?تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ ? {الأحزاب:44}، ?كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ? {المطففين:15}، فدلت الآيات على وقوع الرؤية للمؤمنين ثواباً لهم.
قلنا: قد دلت الآيتان المذكورتان والأحاديث في استدلالنا على انتفاء الرؤية وهي صرائح لا تحتمل التأويل، فيستحيل أن تدل هذه الآيات على الرؤية وإلا لتناقض القرآن في دلالته، ولكذبت الأحاديث المذكورة، وحينئذ فيجب تأويل ما احتجوا به من أن النظر بمعنى الانتظار كقوله تعالى: ?فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ? {النمل:35}، وقال الشاعر:
وكنا ناظريك بِكُلِّ فَجٍّ .... كما للغيثِ تُنْتَظَرُ الغمامُ(1/309)


وهو شائع كثيرٌ أو أن ?إلى? بمعنى النعمة واحدة الآلاء، واللقاء لا يستلزم الرؤية يقال لقي الضرير الأمير، وقد قصروها على المؤمنين فلو كان يدل على الرؤية لناقض ذلك قوله تعالى: ?فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ? {التوبة:77}.
وحكي أن رجلاً من مشيخة الأشعرية ركب سفينة فقعد وحوله جمع ممن فيها يحدثهم أن الرؤية ثواب خاص للمؤمنين لقوله تعالى: ?تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ?{ الأحزاب:44}وكان قائماً في تلك الحال أحد شقاة السفينة يسمع ذلك التحديث، فقال: أيها الشيخ أتقول إن الرؤية ثواب؟ قال: نعم. قال: وتقول: إن اللقاء يدل عليها؟ قال:نعم. قال: فما تقول في قوله تعالى: ?فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ?الآية، فرفع رأسه فنظر رجلاً لا يتأتى منه هذا الاستنباط البديع فقال له: من أخبرك بهذا؟ فقال: سمعته من شيخ ببغداد يقال له: أبو علي الجبائي، فقال: قاتله الله لقد بث الاعتزال في البر والبحر.
فانظر إلى انقطاع حجة هذا المحتج كيف لم يجد سوى هذه المقالة الدالة على بطلان وانقطاع ما في يده وقوله تعالى: ?كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ?، كناية عن الاستهانة بهم، ومحجوبون عن رحمته كقوله تعالى: ?مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ?{البقرة:102} ?لا يكلمهم ولا ينظر إليهم ? ونحو ذلك.
قالوا:قال صلى الله عليه وآله وسلم: " سترون ربكم كالقمر ليلة البدر لا تضاموا في رؤيته ".(1/310)

62 / 311
ع
En
A+
A-