وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً?، إذ لم يذكر فيها ذهاب قومه معه، ولم يذكر فيها أخذ صاعقة ولا وقوع رجفة، فيكون قولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً في المرة الثانية، لذلك أُفردت لها آية أخرى وخطاب متجدد وذكر فيها أخذ الصاعقة لهم وتوسطت بينهما الآيات المذكورة في شأن العجل وإيتاء الكتاب والأمر بقتل أنفسهم، ويحتمل أنها قصة واحدة وإنما ذهب إلاّ مرة واحدة وقومه معه والسؤال وأخذ الصاعقة إياهم كان فيها، إذ لا يمتنع أن ما ذكر في الآية الأولى وما ذكر في الآية الأخرى إخبار عن قصة واحدة وإن توسطت بينهما الآيات في شأن العجل وإيتاء الكتاب، فذلك لا ينافي اتحاد القصة وإنما حسن توسيط الآيات في شأن العجل وإيتاء الكتاب لأن الذين اتخذوا العجل هم أصحاب السامري وكان ذاك عند أن كان موسى ومن معه من السبعين الرجل المختارين في الجبل والسامري وأصحابه ممن استخلف موسى هارون عليهم وإيتاء موسى الكتاب كان عند أن كان موسى ومن معه في الجبل، فلما كانت الأربعون الليلة ظرفاً للمجموع كان لا مانع من توسيط ما ذكر بين الآيتين المسوقتين لقصة واحدة، وكذلك قوله تعالى في سورة الأعراف فإنه قال تعالى: ? وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ o وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ o قَالَ يَامُوسَى إِنِّي(1/301)
اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ o وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ? الخ الآيات {الأعراف: 142-145}، المذكورة في شأن الكتاب.
وهذا أيضاً كما ترى لم يذكر فيها أن قومه كانوا معه ولأن الصاعقة كانت فيها، ثم ذكر قصة العجل بقوله: ? وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا ? {الأعراف:148}، أو المراد بعض قوم موسى وهم أصحاب السامري إذ المعلوم أنه لم يتخذه إلا السامري ومن تبعه، ثم ساق عدة آيات في شأن العجل ونحوه إلى قوله: ? وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ? {الأعراف:155}، وهذا كما ترى يحتمل نحو ما ذكرنا في آيات سورة البقرة أنهما قصتان الأولى ذهب فيها موسى وحده وفيها وقعت مناجاته لربه وسأل الرؤية لكنه لا يستقيم أن السؤال لقومه لأنهم على هذا لم يكونوا معه، وهو محمول على أحد تأويلي الزمخشري والمتوكل على الله وهو تفسير القاسم والهادي والحسين بن القاسم وغيرهم عليهم السلام فقالوا: لم يسأل موسى الرؤية نفسها بل سأله تعالى أن يريه آية من عظيم قدرته تعالى ينظر بها إليه أي يُعلمه تعالى بها علماً ضرورياً كما قال إبراهيم عليه السلام ? رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي? {البقرة:260}، فقال تعالى: ?لَنْ تَرَانِي? أي لن تقدر على أن ترى آية من عظيم آياتي الباهرة، ولكن انظر إلى الجبل الذي هو أعظم منك كيف يكون حاله فإن استقر مكانه بعد أن أفعل به ما تراه فسوف تراني- أي فستعلم - الآية العظيمة، فلما ارتج الجبل وادك(1/302)
لم يملك موسى نفسه أن خر مغشياً عليه ? فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ? الآية.
قال شيخنا رحمه الله: وهذا عجيب إلا أن المأثور والظاهر خلافه ذكره في سمط الجمان بأخصر من العبارة المذكورة وذكره في الكشاف أخيراً بالمعنى وزيادة بعض ونقصان بعض كما يظهر لمن طالع الجميع، لكنا أخذنا المعنى من الجميع مع بعض تصرف للإيضاح.
قلت: وعلى هذا التأويل يسقط احتجاج الجميع بالآية الكريمة، وحيث أن القائل به من قد رأيت من العلماء الأعلام والأئمة الكرام فلا يمتنع صحته، والله أعلم، ولعله يحتمل معه أنهما قصتان: إحداهما: كان منها ما ذكره وكان وحده عليه السلام . والأخرى: كان فيها قومه معه وقالوا له: أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم.(1/303)
ويحتمل أنها قصة واحدة على نحو ما سلف من توجيه ذلك عند ذكر آيات البقرة، وأما على ما يقتضيه كلام الإمام الناصر في البرهان في تفسير: ? وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً?، أنه الميقات الأول، فالأمر بالعكس من الترتيب المذكور والآية وإن تأخرت في الذكر في القرآن فما تضمنته واقع قبل إيتاء الألواح في الميقات الثاني، فيكون على هذا أنه ذهب في المرة الأولى للمناجاة وقومه معه فقالوا له: ? أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ ?، وفي الآية السابقة قوله: ? رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ? الخ كان أيضاً هو الظاهر من قوله: ? فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ?الخ، كان فيها ذهب لأخذ الألواح المعبر عنها بإيتاء الكتاب، ويستبعد معه أنه قال ? رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ?على التأويل الثاني، لأن إيتاءه الألواح آية تغني عن طلب غيرها مع أنه قد تقدم قبل ذلك ما هو من أعظم الآيات كقلب العصا حية وتلقفها ما يأفكون، وإغراق فرعون ومن معه في اليم، وعلى التأويل الأول أبعد بل ممتنع لأنه إذا قد كان ذلك في القصة الأولى التي عبر عنها عليه السلام بقوله هو الميقات الأول وأخذتهم الصاعقة إذ ذاك، فكيف يستقيم أن يكون مثل ذلك في الميقات الآخِر؟(1/304)
وأقول والله أعلم: لا طائل تحت هذا النزاع والاختلاف في أنها قصة أو قصتين لأن عمدة الاستدلال هو قوله تعالى: ? لَنْ تَرَانِي ?وتسميته الله سبحانه وتعالى سؤال الرؤية ظلماً وأنه أكبر إثماً من سؤال كتاب غير القرآن وجعله سبباً لأخذ الصاعقة إياهم، وهذا لا يفترق الحال فيه بين أن يكون واقعاً في قصة واحدة أو في مجموع قصتين غير أن الواجب تنزيه موسى عليه السلام أن يسأل الرؤية لا عن قومه لئلا يشاركهم في تلك المعصية، وأن يكون تكرر منه السؤال لاستلزام العبث والتعنت منه عليه السلام إن أجيب عليه عند السؤال الأول أو ترك البيان عند الحاجة منزلته بعد ما جاءته واطراح سؤاله إن لم يجب عليه إلا عند السؤال الثاني.
قالوا: لو كان السؤال لقومه لما خر صعقاً ما ذاك إلا أنه لنفسه؟.
قلنا: ولو كانت الرؤية جائزة عليه تعالى لما خر صعقاً إذ لا ذنب لمن طلب ما هو جائز.
قالوا: إنما كان ذلك به لطلبها في الدنيا وهي جائزة في نفسها وإنما محلها الآخرة؟
قلنا: فيلزم أنه عليه السلام إما جاهلاً لعدم جوازها في الدنيا ففي ذلك نسبة الجهل إليه، أو عالماً ففي ذلك نسبة التجاري إليه والكل لا يجوز.
قالوا: لو كان السؤال لقومه لما صحت منه التوبة ما ذاك إلا أنه لنفسه حين لا تجوز؟.
قلنا: ولو كان لنفسه مع أنها جائزة ما صحت منه التوبة فما أجابوا به فهو جوابنا، وقولهم: ما ذاك إلا أنه لنفسه حين لا تجوز، يلزم تجهيله أو نسبة التجاري إليه.(1/305)