فنقول وبالله نصول: قد حرر الرازي هذا الاعتراض على طريقة المَنَاطِقَة من أن السالبة الكُليِة نقيضها موجبة جزئية، فيلزم من نفي السالبة الكُلِيَّة إثبات الموجبة الجزئية فقوله تعالى: ?لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ?، بمنزلة لا تدركه كل الأبصار وهذه سالبه كلية، وحيث أنها منفية يلزم ثبوت نقيضها ونقيض السلب الموضوع له حرف النفي الإيجاب ونقيض الكل المعلوم من صيغة العموم البعض فيصير التقدير بل تدركه بعض الأبصار، وهذا الكلام كما تراه غير جار على قواعد الاستدلالات القطعية لأن مداره على الأخذ بالمفهوم، وهو لا يعمل به في الفروع إلا إذا لم يعارض المنطوق، فكيف يصح العمل به في الأصول المطلوب فيها القطع مع أنه معارض لأدلة العقول وجملة صرائح من المنقول، فإذاً لا يلتفت إلى هذا الاعتراض الساقط الأركان المنهدم البنيان، لكنا نناقش فيه لنكشف بطلان ما عَوَّل عليه.
فنقول: هذا التأويل العليل والتحرير الذي ما عليه من دليل مبناه على أن النفي موجه إلى سلب العموم، ولسنا نسلمه بل هو في الآية موجه إلى عموم السلب لأن لا نافية للجنس والماهية من حيث هي فهو كقوله تعالى: ?وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً?{آل عمران:80}، فكما أنه لا يصح أن يقال تقدير الكلام لا يأمركم أن تتخذوا كل الملائكة وكل النبيين أرباباً بل يأمركم أن تتخذوا بعض الملائكة وبعض النبيين أرباباً كذلك لا يصح أن يقال: لا تدركه كل الأبصار بل تدركه بعض الأبصار.(1/291)
وبعدُ فإنما كان تستقيم له هذه الدعوى لو كانت لفظة كل مذكورة في الكلام مصرح بها بأن يكون لفظ الآية: لا تدركه كل الأبصار، فأما مع عدمها ودعوى تقديرها فلا يسلم له ما يفرعه من أنه يفهم منه بل تدركه بعض الأبصار، لأنك إذا قلت: زيد لا يتزوج النساء. كذبت هذه القضية بتزوجه واحدة من النساء لتوجهه إلى الجنس والماهية دون الجملة والكل المجموع بخلاف ما لو صرحت بلفظة كل بأن قلت: زيد لا يتزوج كل النساء، لم تكذب هذه القضية بأن تزوج واحدة أو اثنتين أو أكثر لاحتمال أن المراد لا يتزوج كل النساء بل يتزوج بعض النساء.
فعلمت بهذا الكلام أن سلب العموم الذي بنى عليه المعترض استدلاله إنما يستقيم على التنزل لو ذُكرت لفظة كل، وهذا واضح لمن أنصف دون من حاد عن الحق وتعسف.
وبعدُ فالآية واردة مورد المدح إجماعاً، ولا مدح له تعالى في أنه لا تدركه كل الأبصار، بل تدركه بعض الأبصار لأن كل أحد من البشر والحجر والشجر وأكثر المرئيات كذلك لا تدركها كل الأبصار بل تدركها بعض الأبصار، فيبطل المدح له تعالى بذلك لعدم الاختصاص بذلك الوصف، وهذا أيضاً واضح بلا ريب ولا شبهة.
فثبت استدلال الأصحاب بهذه الآية الكريمة على الوجه الذي لم يبق للمخالف مطمع ولا موضع للمنازعة إلا مجرد الاعتساف والارتكاب لمتن الخلاف ولله الحمد.(1/292)
دليل على أنه تعالى لا تصح عليه الرؤية بحال من الأحوال
[ و ] مما يدل على أنه تعالى لا تصح عليه الرؤية بحال ما [ قالـ ]ـه تعالى [ لموسى عليه السلام لما سأله الرؤية ] بقوله: ?رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ [ لَنْ تَرَانِي ] وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي? الآية{الأعراف:143}، ووجه الاستدلال بها أن لن موضوعة في لغة العرب للنفي المؤبد ما لم تقيد بما يرفع التأبيد كما حكى الله تعالى عن مريم عليها السلام: ?فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا? {مريم:26}، فلولا أنها قيدت نفي تكليمها عليها السلام بذكر اليوم لاقتضى النفي المؤبد كما في قوله تعالى: ?لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا? {الحج:73}، ?لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا ? {الحج:37}، ?لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ? {آل عمران:92}، ?لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا? {المجادلة:17}، وقد نفى الله الرؤية عن موسى عليه السلام بلفظة ?لن ? ولم يقيده بوقت فاقتضى التأبيد، ثم أكد نفي الرؤية بأن علقها بشرط مستحيل حصوله وهو أن يكون الجبل مستقراً حال أن جعله دكاً - أي مدكوكاً- مصدر بمعنى اسم المفعول، والدَّك: الدَّق، فجعله سبحانه مدكوكاً مُسَوَّى بالأرض، وجعل الرؤية بأن يراه مستقراً جبلاً على حالته الأولى في حالة جعله دكَّاً مسوى بالأرض، وقيل: إن دَكّاً بمعنى: متحركاً:?إِذَا دُكَّتْ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا?{الفجر:21}، - أي حُرِّكَت -كما في قوله تعالى: ? إِذَا زُلْزِلَتْ ?، فيكون أيضاً مما علق بالمحال فهو محال، لأن استقرار الجبل حال تحركه محال، لأنه جمع بين النقيضين من حيث أن الاستقرار هو السكون الذي هو نقيض الحركة، فاجتماعهما في حالة واحدة محال، وما علق بالمحال فهو محال كما في قوله تعالى في حق الكفار: ?وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ(1/293)
حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ? {الأعراف:40}، وكقول الشاعر:
وأقسم المجدُ حقاً لا يُخَالِقَهُمْ .... حتى يُخالقُ بطنُ الراحةِ الشعرُ
فإن قيل: أليس أن الله تعالى قادر على أن يجعل الجبل مستقراً بعد أن جعله دكاً أو جعله متحركاً، فكيف جعلتم استقراره بعد ذلك محالاً وليس بمحال بل هو جائز، وما علق على الجائز فهو جائز، وقد عُلِّقت الرؤية بذلك فهي إذاً جائزة؟
قلنا: لم يجعل الله الرؤية متعلقة باستقرار الجبل بعد أن صار دكاً أو متحركاً بل حال أن صار كذلك وفرق بين الأمرين، فإن جَعْلَه مستقر في حال كونه دكاً أو متحركاً يلزم منه الجمع بين النقيضين بخلاف جعله مستقراً بعد أن صار مدكوكاً أو متحركاً فلا كلام أنه ليس بمحال، إذ لا يؤدي إلى الجمع بين النقيضين وأن الله على كل شيء قدير، لكن لم تكن الرؤية معلقة على ذلك.
دليله: أن الرؤية لم تحصل لموسى عليه السلام وقد استقر الجبل وعاد إلى حالته التي كان عليها، فعلم أنها لم تعلق باستقراره بعد الدك بل حاله.
وقد أكثر المخالفون التشبث في هذه المسألة بسؤال موسى عليه السلام الرؤية، وقالوا: لو كانت مستحيلة في حق الله تعالى لما سألها عليه السلام سيما وهو أعلم الناس بالله وكليمه وصفيه؟(1/294)
[ و ] الجواب عليهم وبالله التوفيق: أنه لما أكثر قوم موسى التعنت عليه وقالوا له: أرنا الله جهرة، ولم يقنعوا بالأدلة العقلية في إثبات الصانع تعالى وتوحيده وعدم تجسيمه وتجسيده تعالى، وأنه لا يشبه الأشياء ولا يجوز عليه تعالى ما يجوز عليها من الرؤية ونحوها حتى علقوا إيمانهم لموسى عليه السلام بالصانع وما يترتب عليه من نبوة موسى عليه السلام وسائر ما جاء به على رؤية الله تعالى، وقالوا له: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأراد عليه السلام أن ينضم إلى أدلة العقل دليل سمعي يقطع عنده حجاجهم وينقطع بعده لجاجهم، وسلك في طلب ذلك الدليل أبلغ مسلك ليكون أبلغ وأقطع لمحاججتهم بأن أسند الرؤية إلى نفسه ليعلموا أنه إذا مُنِعَها مع كونه كليم الله وحبيبه فهم بالمنع أولى بخلاف ما لو أسندها إليهم وقال: أرهم ينظرون إليك، لبقي الشغب معهم ومع غيرهم من أهل الضلال بأنهم إنما مُنِعُوها لكونهم ليسوا من أهلها، ولو سألها لنفسه لأُجيب إلى ما سأل فظهر بهذا أنه [ لم يسأل موسى عليه السلام الرؤية لنفسه، بل عن قومه، ] ولم يقل المؤلف عليه السلام لقومه، لئلا يوهم بذلك أنها تصح لهم أو له، ولو قال: بل لقومه، لأوهم جوازها لهم وله من باب الأولى، فعدل عن اللام المفيدة الجواز والصحة إلى عن التي لا تفيد ذلك، وإنما قلنا: إن موسى عليه السلام لم يسأل الرؤية لنفسه لدليلين:(1/295)