معنى الإدراك في قوله تعالى:?لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ?
واعلم أن الاستدلال بالآية الكريمة ينبغي معه معرفة مفردات الكلمات المذكورة فيها باعتبار الحقيقة والمجاز فيستلزم معرفة معنى الإدراك، ومعرفة معنى الإبصار، ومعرفة معنى إسناد الإدراك إلى الإبصار وإلى الله تعالى، وقد جمعنا الجميع في هذه الجملة لتقرير الدلالة على وجه يسقط معه اعتراض الخصوم ويكون منزلة هذه الجملة من الوجهين الأولين بمنزلة التكميل والتحقيق وبمثابة التفصيل والتدقيق، لأن الرازي اعترض استدلال أصحابنا بالآية مع أنها دلالة ظاهرة لا يسبق الفهم عند سماع الآية إلا أن المراد منها هو نفي أن تراه سبحانه وتعالى أعين الناظرين ويخفى عليه شيء من أحوال المبصرين، ولكن العلم نقطة كَثَّرَها الجاهلون.
فاعترض الرازي ذلك الاستدلال بأن قال ما معناه: غاية ما في الآية أن الأبصار لا تدركه.
وهو مسلم لأن الأبصار هي المعاني القائمة بالأحداق وهي لا تراه وإنما يراه الإنسان المبصر بها، فظاهر الآية متروك إجماعاً فلا بد من التأويل حيث قد ترك ذلك الظاهر بالاتفاق، فإمَّا أن يجعلوا الإبصار بمعنى المبصرين بالأبصار فهو تعالى من جملة المبصرين فيدخل في ما شمله العموم في: ?وهو يدرك الأبصار ?، فيلزم أن يرى نفسه، فصارت رؤيته تعالى جائزة في نفس الأمر غير مستحيلة، وكل من صح أن يرى نفسه صح أن يراه غيره، فتنقلب الآية دليلاً لمثبتي الرؤية لا لمن نفاها.
وكذلك اعترض بأن النفي في الآية موجه إلى كل الأبصار.
وهو مسلم لأن الكفار لا يرونه، لأن هذه سالبة كلية ونقيضها موجبة جزئية، وإذا نفي أحد النقيضين ثبت الآخر لاستحالة ارتفاع النقيضين ونحو ذلك من الاعتراضات التي بلي بها أهل التحقيق والتدقيق.
فينبغي معرفة الثلاثة الأبحاث المذكورة ليتم المراد من الاستدلال، ويعرف بطلان هذين الاعتراضين المذكورين بخصوصهما.(1/286)


فنقول وبالله نصول: الإدراك يأتي في اللغة بمعنى: اللحوق، يقال فلان أدرك الصحابة، وفلان أدرك فلاناً في محل كذا -أي لحق به-، وبمعنى: البلوغ، يقال قد أدرك الغلام -أي بلغ-، وبمعنى: يناع الفاكهة وصلاحها، يقال: قد أدرك الثمر إذا صلح وينع، وبمعنى: إدراك المحسوس بإحدى الحواس الخمس، فيعلق حينئذ بذلك المحسوس ليميز عن غيره كأدركت صوت فلان في المسموع، أو ريح كذا في المشموم، أو لون كذا أو شبح كذا في المبصر، أو طعم كذا في المطعوم، أو حرارته أو برودته في الملموس، ويقيد بذكر المخصوصة به كأدركت ببصري أو سمعي أو نحو ذلك، فإذا ذكر معه أي الحواس الخمس أو الخمس الجوارح أو الخمس المحسوسات علم أنه المراد، فإن أسند ذلك الإدراك إلى الإنسان نفسه ثم عَدَّى الفعل بعد ذلك إلى تلك الحاسة بحرف الجر كأدركت ببصري فالإسناد على حقيقته،وإن أسند ذلك الإدراك إلى الحاسة أو الجارحة فالإسناد مجازي وهو نوع من الفصاحة والبلاغة ليفيد التأكيد للإثبات في الإثبات كقولك: هذا شيء أدركته الأبصار وعقلته الأفكار، وللنفي في النفي كقولك ما أدركته الأبصار ولا نالته الأفكار، ومنه قوله تعالى: ? لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ? فإن الإسناد إلى الأبصار مجاز، لأنه لا يخفى على عارف باللغة ووجوه البلاغة والفصاحة أنه لا معنى للإسناد الحقيقي إلى نفس المعاني القائمة بالجوارح ولا إلى نفس الجوارح وإنما المراد المبالغة في ذلك، ولأنه لا يشتبه على العارف بالله تعالى وحكمته أنه لا يصح منه تعالى الإسناد الحقيقي إلى المعاني التي هي نفس البصر المركب في العين ونفس السمع المركب في الصماخ اللذين امتن الله على المخلوقين بهما قال تعالى: ?وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ?{السجدة:9}، وكذلك لا يصح منه تعالى الإسناد الحقيقي إلى الجوارح التي هي نفس العين ونفس الأذن.(1/287)


فبهذا علم أن المراد بنفي إدراك الأبصار له هو نفي رؤيته تعالى من المبصرين بالأبصار، وسواء جعلنا الأبصار باقية في معناها الأصلي وهو المعنى القائم بالحدق، أو أريد بها المبصرين بها إلا أنه يفترق الحال بينهما في وجه التجوز، فعلى الأول التجوز واقع في الإسناد نفسه والأبصار باقية على أصلها وحقيقتها، وعلى الثاني التجوز في نفس الأبصار حيث جعلناها بمعنى المبصرين بها والإسناد باق على أصله وحقيقته، وبهذا سقط اعتراض الرازي كيفما أراد إيراده وأينما راود انتشاده.
فإن قلت:أي الوجهين أولى وأرجح، وأي المعنيين أبلغ وأفصح، التجوز في الإسناد وإبقاء الأبصار على حقيقتها، أو العكس حسبما مر إيضاحهما ؟(1/288)


قلت: في كل منهما قوة وضعف لأنا إذا تجوزنا بالإسناد وأبقينا الأبصار على حقيقتها فهو قوي في ?لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ? لكنه ضعيف في:? وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ? إذ المعلوم أنه ليس المراد من الآية أنه تعالى يدرك المعنى القائم بالحدق لأنه تعالى يدرك ذلك المعنى وغيره من سائر المدركات وجميع المعلومات فلا وجه لتخصيصها بالذكر من هذا الوجه،وإن تجوزنا في الأبصار وجعلناها بمعنى المبصرين وأبقينا الإسناد على حقيقته فهو قوي بالنظر إلى إفادة المطلوب، لكن بقاء الإدراك على حقيقته في ?وَهُوَ يُدْرِكُ?لا يتأتى، لأن الإدراك في حقه تعالى ليس على حقيقته بل عبارة عن العلم بالمدرك، لأنا قد بينا أنه حقيقة في الإحساس بإحدى الحواس الخمس ويلزم معه العلم بالمدرك، فاستعماله في حق الله تعالى من استعمال اللازم في الملزوم وذلك نوع من المجاز، فالأَولى أن يقال: أنه لا مانع من أن يؤخذ من كل من الوجهين بالطرف الأفصح والأرجح بطريقة الاستخدام بين الحقيقة والمجاز فيجعل الإدراك المنفي في قوله ?لا تُدْرِكُهُ?ألا تتركه على حقيقته وهو الإحساس بإحدى الحواس، ويجعل الإدراك المثبت في قوله:?وَهُوَ يُدْرِكُ?مجازاً عن العلم، ثم بعد هذا تجعل الأبصار الأَوَّلَة على حقيقتها فيصير التجوز في إسناد الإدراك إليها لا في نفس الإدراك فلا بد من بقائه على حقيقته بكل حال، أو بمعنى المبصرين بالأبصار فيصير التجوز فيها لا في الإسناد ولا في الإدراك، وأيَّمَّا كان من الاعتبارين فالأبصار الثانية إما أن تجعل تابعة للأولى بأن يجعل الكل على حقيقته أو على مجازه أو نخالف بينهما بأن نجعل الأولى في حقيقتها والثانية في مجازها على سبيل الاستخدام أيضاً، فإن جعلناها في الكل حقيقة فلا يحسن إلا مع قصد المبالغة في الثانية بأنه تعالى يدرك البصر الذي هو المعنى القائم بالحدق الذي يستحيل عليكم أن تدركوه بأي حاسة من حواسكم، فكيف لا يدرككم أو يخفى عليه شيء(1/289)


من حالاتكم ويصير هذا كقوله تعالى: ? يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ? {غافر:19}، ونحو ذلك مما لا يتمكن من العلم به بواسطة الحاسة ؟ وإن علم لنا وجوده بالدليل كما نعلم وجود البصر في العين بحصول المقتضىَ عنه وهو الإدراك، فهذا وجه بليغ لا غبار عليه، وإن لم تقصد معه المبالغة فهو ضعيف كما مر إيضاحه فلا ينبغي حمل الآية عليه،وإن جعلناها في الكل مجازاً بمعنى المبصِرين فهو ضعيف أيضاً إلا مع القيد المذكور بأن يقال المبصرين بالأبصار، وإن خالفنا بينها بأن جعلناها في الأول على حقيقتها وفي الثاني بمعنى المبصرين فلا يحسن إلا مع القيد المذكور، أو جعلنا الأولى بمعنى المبصرين والثانية على حقيقتها فمع ذكر، القيد في الأولى وقصد المبالغة في الثانية يصير وجهاً بليغاً في غاية من البلاغة والإفادة والإجادة، ولعل أن الاعتبار الأول في منزلته ومنهما يعرف سقوط كلام المعترض بقوله: فهو تعالى من جملة المبصَرين فيدخل فيما شمله العموم الخ الاعتراض المذكور، لأنه لم يرد بالأبصار الثانية مطلق المبصرين فيدخل سبحانه في جملتهم، وكذلك على سائر الاعتبارات المذكورة مهما قيد المبصرين بقولنا: بالأبصار، وإنما يرد الاعتراض على أحد الاعتبارات المذكورة وهو حيث أريد بالأبصار بالثانية المبصرين من دون القيد المذكور، وقد بينا أنه أضعف الوجوه والاعتبارات فلا ينبغي حمل الآية عليه، لأن كلام الله تعالى يجب حمله على أبلغ الوجوه والاعتبارات.
فهذا الكلام في تقرير الاستدلال بالآية الكريمة وإبطال الاعتراض الأول، فلنثني العنان حينئذ إلى إبطال الاعتراض الثاني.(1/290)

58 / 311
ع
En
A+
A-