فالجواب: أنَّا وإن سلمنا هذه القاعدة فلا نسلم أنها مطردة في كل عموم، بل ذلك خاص بالأحكام الشرعية والأخبار بالمخبرات عن الحوادث والتاريخ المتعلقة بمفردات يمكن اختلافها في تعلق المصالح بها، وفي الصدق والكذب بنسبة تلك الحوادث إلى بعض دون بعض، فأما ما يتعلق بالمعارف الإلهية والمسائل الدينية كالنبوة ونحوها فلا يسلم أن دلالة العموم فيه ظنية بل قطعية تتناول كل فرد من أفراد ذلك العموم قطعاً كقولنا: ?لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ?{محمد:19}، ?لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ?{البقرة:255}، ?وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا?{الكهف:49}، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا نبي بعدي"، ومن ثمة نص أئمة الأصول أن دلالة العموم ظنية إلا في الوعيد، لأنا لو لم نقل بذلك أدى إلى الشك وعدم القطع في كل فرد من أفراد هذه المنفية ودخول كل فرد من أفراد الأنبياء والمؤمنين الجنة، ودخول كل فرد من أفراد الكفار النار،وفي ذلك هدم للدين ولحوق بزمرة الكفرة الملحدين.
فتقرر بهذا أن دلالة العموم فيما يتعلق بالمعارف الإلهية ونحوها قطعي، وثبت الاستدلال بالآية المذكورة على نفي رؤيته تعالى لجميع المكلفين ولجميع أوقات الدنيا والآخرة.
الوجه الثاني: ما ذكره المؤلف عليه السلام في كتابه المعروف بينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة، وذكره القرشي في المنهاج وغيره من علماء العدلية وهو: أنه تعالى تمدح بنفي إدراك الأبصار له وأنه تمدح راجع إلى ذاته، وكل مدح راجع إلى الذات فإثبات نقيضه نقض والله تعالى لا يجوز عليه النقص، وهذا الدليل مبني على أربعة أصول:
أحدها: أنه تمدح بنفي إدراك الأبصار له تعالى. ثانيها: أنه تمدح راجع إلى ذاته.ثالثها: أن كل مدح راجع إلى الذات فإثبات نقيضه نقص.رابعها: أن النقيض على الله تعالى لا يجوز.
أما الأصل الأول:(1/281)


فلا خلاف أن الآية واردة مورد المدح له تعالى ولأن أول الكلام مدح وهو قوله تعالى: ?بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ? الآية{الأنعام:101}، وآخره مدح أيضاً وهو قوله تعالى: ?وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ?، فيجب أن يكون المتوسط مدحاً وهو قوله تعالى: ?لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ?، وإلا لزم أن يتوسط ما ليس بمدح بين أوصاف المدح وهو مستهجن عند أهل العربية فلا يصح في كلام الحكيم، وهذا لا ينكره الخصوم ولكنهم زعموا: أن وجه التمدح في ذلك من حيث أنه تعالى لا تحيط به الأبصار لا من حيث أنها لا تدركه وتراه.(1/282)


قلنا: هذا كلام ساقط وخلاف لما يسبق إلى الفهم من معنى الآية فلا يجوز العدول إليه، وبعد فمن شأن التمدح أن يكون وصفاً لا يشاركه غيره فيه إلا ويكون ممدوحاً بما مدح به، وهذا المعنى الذي حملوا المدح عليه وهو أن الأبصار لا تحيط به تعالى مع إدراكها له بزعمهم لا يختص به الباري تعالى، لأن السماوات والأرض والبحار والقفار الواسعة تدركها الأبصار ولا تحيط بها بل هذا معلوم في أكثر المرئيات، فإنا نرى الجبال والأشجار والأحجار والحيوانات لا تحيط أبصارنا منها إلا بما قابل الرائي منا لها دون سائر الجوانب الاخَرة وبطونها وقعورها فبطل ما زعموه بلا ريب، وإنما وجه التمدح في ذلك من حيث أنه تعالى يرى المرئيات جميعاً ولا هي تراه ولا يرد عليه أن القدرة والعلم والحياة ونحوها من سائر المعاني، وكذلك المعدوم على القول بأنه شيء قد شاركته تعالى في أنها لا ترى بالأبصار فيبطل التمدح، لأنا نقول: وجه التمدح مركب من الوصفين كونه تعالى يرى الأشياء كلها ولا يراه شيء منها، وهذه المذكورة وإن شاركته عز وجل في الوصف الأخير وهو كونها لا يراها أحد فهي لا تشاركه في الوصف الأول وهو كونه يراها كلها، فصار ذلك كقوله تعالى: ?لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ?، فإن هذا الوصف وحده غير كاف حتى ينضم إليه الوصف بكونه تعالى حياً، كالوصف بكونه تعالى لا يطعم حتى ينضم إليه الوصف بكونه يُطعِم، لأن الجمادات والأعراض تشاركه في كونها لا تأخذها سنة ولا نوم وكونها لا تَطعَم، ولكن لم يضر ذلك مدحاً في حقها لاختلال المصحح والمقتضِي لذلك الوصف وهو الحياة فيصير وجه التمدح وعدم حصول المقتضى وهو السِنَة والنوم، وأن لا يطعم مع حصول المصحح وهو كونه تعالى حياً، وهو وصف خاص بالله تعالى لا يشاركه غيره فيه، فكذلك كونه تعالى يرى كل الأشياء ولا يراه شيء منها، ويصير الجميع كالشاهد والكاشف على أنه تعالى لا يشبه الأشياء ولا تشبهه ولا يجوز عليه ما جاز عليها.(1/283)


واعترض هذا الرازي بأن قال: إنما يحصل المدح بنفي الرؤية إذا كانت جائزة وكان تعالى قادراً على منع الإبصار عن ذلك، وجعل هذا وجهاً مستقلاً في جوازها.
قال القرشي رحمه الله تعالى: والجواب: يقال له: وكذلك السِّنَة والنَّوم والصاحبة والولد وجوابه جوابنا، وأما قياسه لذلك على التمدح بنفي الظلم والعبث فغير صحيح، لأن التمدح هنا راجع إلى الفعل وما كان كذلك فلا يتم المدح فيه إلا مع القدرة عليه، ولهذا لا يصح التمدح بنفي الجمع بين الضدين ونحو ذلك بخلاف ما كان راجعاً إلى الذات، فإنه غير مقدور على أنا ننفي ما تمدح الله بنفيه وإن رجع إلى الفعل فنقول لا يظلم لا في الدنيا ولا في الآخرة، فهلا قال بمثله في نفي الإدراك؟‍ انتهى كلامه رحمه الله تعالى، وهو كلام جيد في رد ذلك الاعتراض فتأمله.
قلت: ويزاد في الرد على الرازي بأن يقال له: وما تريد بقياسك لنفي الرؤية أنه لا يصير مدحاً إلا إذا كانت جائزة وكان تعالى قادراً على منع الإبصار لكن ذلك على نفي الظلم والعبث؟ فإن أردت به الاستدلال على صحة مذهبك لإمكان الرؤية وجوازها فالأصل المقيس عليه وهو نفي الظلم هو مستحيل الوقوع على أصلكم: أن حقيقة الظلم هو التصرف في ملك الغير إذ لا ملك لغير الله تعالى، فكيف تستدل لإمكان شيء وجوازه بالقياس على شيء مستحيل في نفسه؟! وإن أردت به إبطال استدلالنا وإلزامنا الخروج عنه بالقياس على التمدح بنفي الظلم والعبث، فلسنا نحد الظلم بما ذكرتم فيلزمنا التمدح بنفي المحال ولا نُجَوِّز صدوره من الله تعالى لقبحه، لا لكونه تعالى غير قادر عليه بل هو قادر عليه، ولكن لا يفعله لكونه تعالى عدلاً حكيماً وليس ذلك من شأن العدل الحكيم.(1/284)


وتحقيق المسألة: أن المدح والتمدح بالنفي إن كان راجعاً إلى نفي وصف عن الذات كان إثبات نقيضه نقصاً، ولا يلاحظ في ذلك هل يقدر على الاتصاف بذلك أو لا يقدر عليه كالتمدح بنفي الولد والصاحبة والسِّنَة والنوم ونحو ذلك، وإن كان بنفي فعل فلا يكون نفيه مدحاً إلا إذا كان الممدوح قادراً على فعله كالمدح بنفي الظلم والعبث والكذب ونحوه، فما ذكره الرازي من الاعتراض مغالطة والأمر كما قيل:
من لم يكن آل النبي هُدَاتُه .... لم يأت فيما قَالَه بدليلِ
بل شُبْهَةٌ وتَوهمٌ وخَيَالَةٌ .... ومَقَالَهٌ تُنْبِي عن التضليلِ
وأما الأصل الثاني: وهو أن ذلك تمدحٌ راجعٌ إلى ذاته.
فهو معلوم، ونعني بذلك أن هذا التمدح مرجعه نفي وصف يتعلق بذاته من حيث أنه لا يُرى، فصار كالوصف بأنه لا يُمثل، ولا يُكيف، ولا يُطعَم ولا تأخذه سِنة ولا نوم، وليس من باب التمدح بأمر راجع إلى فعله ككونه تعالى لا يظلم ولا يُظهر على غيبه أحداً، ولا يحب الجهر بالسوء من القول، والفرق بينهما أن ما كان مرجعه التمدح به إلى الذات فإنه لا يصح نقيضه بأي حال كان، وما كان مرجع التمدح به إلى الفعل فإنه قد يصح نقيضه أو ضده، ولذلك صح الاستثناء بقوله تعالى: ?إِلا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ? {الجن:27}، ?إلا من ظُلِم?{النساء:148}، بخلاف الوصف بأنه لا يمثل ونحوه مما يعود إلى الذات، فلا يصح فيه استثناء ولا غيره مما يرفع ذلك الوصف نفياً كان كما في الآية، أو إثباتاً كوصفه بأنه قادر وعالم وحي، وهذا واضح.
وأما الأصل الثالث: وهو أن كل مدح راجع إلى الذات فإثبات نقيضه نقص.
فذلك معلوم، بدليل أنه إذا تمدح شخص بأنه ليس بشويه المنظر ولا مختل الحواس علم أن إثبات نقائض هذه الأوصاف نقص، وهذا واضح أيضاً.
وأما الأصل الرابع: وهو أن النقص على الله تعالى لا يجوز.
فذلك معلوم وهو إجماع لا يخالف فيه أحد.(1/285)

57 / 311
ع
En
A+
A-