هذا وقد علم مما مر أن المسألة لا تحتاج إلى استدلال بعد تحقيق الكلام على: أن الله تعالى ليس بجسم ولا عرض وأن الرؤية لنا تصح عليهما، لكن لعظم الخلاف والتعسف في تلك الأطراف من أولئك الأجلاف أخذ عليه السلام في الاستدلال على القول الحق بقوله [ لأنه ] تعالى [ لو رُئي في مكان ] كما تقوله المجسمة [ دل ذلك على حدوثه، ] سبحانه وتعالى عن ذلك [ لأن ما حواه المكان ] لا شك ولا ريب أنه [ محدود مُحدَث، ]،وقد ثبت أن الله تعالى قديم فلا يصح القول بذلك [ فإن قيل: إنه ] تعالى [ يُرى في غير مكان. ] كما تقوله الأشعرية حيث قالوا: يُرى بلا كيف. ومن جملة الكيف المكان، فنفوا الرؤية في المكان تبعاً لنفي الرؤية التي بالكيف واثبتوا رؤية بلا كيف ولا مكان، [ فهذا ] قول [ لا يعقل، ] وكل قول لا يعقل يجب رده، ولا يجوز القول به لأنه يفتح باب الجهالات وتجويز المحالات، ولما كان المعلوم أن لا رؤية إلا بكيف كما أشار الإمام شرف الدين عليه السلام بقوله:
وتَكَيُّفُ المرئِي أمرٌ لازمٌ .... فتبين القولَ الصحيحَ من السَّفَهْ
علم أنه إذا انتفى الكيف انتفت الرؤية، أشار إلى ذلك عليه السلام بقوله [ بل فيه ] أي في القول بنفي الكيف [ نفي الرؤية، ] فادعاء الرؤية مع نفيه كإثبات الفرع مع نفي الأصل المصحح لوجوده فيصير كتحيز بلا جسم وتناسل لدى عقم، وذلك ضرب من الهذيان وشطر من البهتان، وفي معنى ما ذكره المؤلف عليه السلام قول السيد الهادي عليه السلام في منظومته الميمية للخلاصة حيث يقول:
وإنْ يقولوا بلا كيفٍ فقد رَجَعوا .... إلى مَقالتِنا يا مَرْحَبَاً بهمُ(1/276)


ومن ثمة قال الرازي فيما حكاه عنه الإمام القاسم عليه السلام في الأساس: أن معناه معرفة ضرورية وعلم يقين بحيث لا ينتفي عن النفس بشك ولا شبهة. قال عليه السلام : قلت وبالله التوفيق: فالخلاف حينئذ لفظي، وكذلك في رده عليه السلام على ضرار أنه إن أراد بالحاسة السادسة ما قاله الرازي فالخلاف لفظي أيضاً. وهذا الذي قاله الرازي وجه وجيه، ولكن نصوص الأشاعرة وعباراتهم واستدلالاتهم لا تساعده، فإنه لو كان الأمر كما ذكر لما أختص بالرؤية المؤمن دون الكافر لأن الكافر يعلمه سبحانه وتعالى في الآخرة علماً ضرورياً بلا خلاف، وأيضاً فمما استدل به المخالفون على إثبات الرؤية وأنها ثواب ما يروونه أنه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن رؤية العباد ربهم يوم القيامة فقال: "منهم من ينظر إلى ربه في السنة مرة، ومنهم من ينظر إلى ربه في الشهر مرة، ومنهم من ينظر إلى ربه في الجمعة مرة، ومنهم من ينظر إلى ربه بكرة وعشياً" ذكره في شرح شواهد الكشاف، وهذا الدليل الذي ذكره المؤلف عليه السلام هو أحد الأدلة العقلية، قال شيخنا رحمه الله تعالى: وهو المسمى دليل المقابلة عند الأصحاب.(1/277)


دليل الموانع ودليل المقابلة
قلت: وفي جعله إياه نظر، فإن الأظهر أن دليل المقابلة غير هذا الدليل وتحرير دليل المقابلة مبني على أصلين:
أحدهما: أن الأبصار لا تَرى إلا ما كان مقابلاً كالجسم أو حالاًّ في المقابل كاللون، أو في حكم المقابل كالوجه في المِرآة، فإنه ليس مقابلاً ولا حالاًّ في المقابل ولا في حكم المقابل.
وثانيهما: أن الله تعالى لا يصح أن يكون مقابلاً ولا حالاًّ في المقابل ولا في حكم المقابل لأن ذلك كله جسم أو عرض، وقد مَرَّ أنه تعالى ليس بجسم ولا عرض، فلا تصح رؤيته بحال.
دليل: وهو المسمى في لسان الأصحاب بدليل الموانع، ورجحه على الدليل السابق السيد مَانِكْدِيْم والمهدي عليهما السلام وأبو هاشم وغيرهم، ورجح أبو طالب عليه السلام وحكاه عن شيخه أبي عبد الله الدليل السابق وهو قول أبي علي، واختلفت الروايات عن المؤيد بالله فإحدى روايتي شيخنا وابن حابس عنه أنه يُرَجِّح دليل المقابلة، وبه استدل غالب الأئمة كالقاسم والهادي عليهما السلام وغيرهما، وإحدى روايتي شيخنا عن المؤيد بالله ترجيح دليل الموانع، وقال القاضي وغيره: هما مستويان في إفادة المطلوب.
قلت: دليل المقابلة يُرَجَّح على دليل الموانع بقرب تركيبه وعدم توقفه على اجتماع شروط اعتبرت في دليل الموانع وإفادته المطلوب من حيث اللفظ بخلاف دليل الموانع، فإنما يتناول المراد من محل النزاع وهو انتفاء الرؤية في الآخرة من حيث القياس على انتفائها الآن، وتحرير دليل الموانع مبني على أصلين:
أحدهما: لو كان الباري تعالى يُرى في حال من الأحوال لرأيناه الآن.
الثاني: أنَّا لا نراه الآن.
أما الأصل الأول: وهو أنه لو رُئي في حال من الأحوال.(1/278)


فتصحيحه مبني على ثلاثة شروط قد حصلت وهي: أن الحواس سلمية، والموانع مرتفعة، والباري موجودٌ، أما أن الحواس سليمة، فمعلوم أن أحدنا على الصفة التي معها يرى المرئيات وهي سلامة حاسة البصر، وأما أن الموانع مرتفعة، فلأن الموانع ثمانية تجمعها قول الإمام المهدي عليه السلام :
حجابٌ وبُعدُ رِقَّةٍ ولَطَافَةٍ .... وفقدُ محاذاتٍ حلولٍ ببعضِها
وسابِعُها قُربُ كميلٍ بِمُقْلَةٍ .... وفقدُ الضياءِ كالليلِ فاعْنَ بِحفظِها
الحجاب الكثيف،والقرب المفرط كالميل في العين،والبعد المفرط، وكون المرئي لطيف الجسم كالجوهر الفرد أو رقيقة كالملائكة عليهم السلام، وكونه غير مقابل للرآئي، وكونه حالاً في أحد هذه المذكورات كاللون فيما قرب أو بعد أو نحوهما،والثامن فقد الضياء المناسب للعين كالظلمة، والذي يدل على ارتفاعها أنها لا تصح إلا في الأجسام والله ليس بجسم، وأما أن الباري موجود فمعلوم.
فكملت الثلاثة الشروط وبكمالها صح الأصل الأول.
وأما الأصل الثاني: وهو أنا لا نراه الآن.
فذلك معلوم ولا منازع فيه، فثبت أنه تعالى لا يُرى في الآخرة لعدم رؤيته الآن، فهذا دليل الموانع، فكان دليل المقابلة أرجح لاستغنائه عن دليل الموانع ولا عكس فتأمل، والله أعلم.(1/279)


مسألة: أن الله تعالى لا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة
[ وقد قال تعالى: ?لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ] وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ?{الأنعام:103}.
اعلم أولاً أنه يصح الاستدلال على هذه المسألة بالسمع اتفاقاً، لأنه لا يتوقف صحته على كونه غير مرئي فلا وجه له فتأمل، والله أعلم.
ووجه الاستدلال بالآية المذكورة من وجهين:
الوجه الأول: ما ذكره عليه السلام بقوله [ فنفى ] بذلك أن تدركه الأبصار [ نفياً عاماً لجميع المكلفين، ولـ ] جميع [ أوقات الدنيا والآخرة. ] فاقتضى ذلك العموم والشمول لجميع الأفراد في الطرفين الأشخاص والأوقات من حيث أن حرف النفي إذا دخل على الفعل المضارع نفاه على سبيل الإطلاق من دون تقييد بوقت دون وقت، وكذلك آلة التعريف إذا دخلت على اسم الجمع أفادت العموم لجميع أفراده وهذا لا ينكره الخصوم، ولكنهم أرادوا أن يتخلصوا عن هذا بما ليس بمخلص فقالوا: وإنه وإن كان عاماً فقد خصص بأدلة أُخر دلت على أنه تعالى يراه المؤمنون في الآخرة ثواباً لهم. قالوا: وكل عام إذا ورد ما يخصصه وجب العمل بالخاص فيما يتناوله، وفي العام فيما بقي بلا خلاف.
والجواب: أنَّا وإن سلمنا هذه القاعدة فلا نسلم ورود ما فيه تخصيص العموم المذكور في الآية الكريمة، لأن ما تمسكوا به أحاديث آحاد منازع في صحتها ومحتملة للتأويل ومعارضة بما هو أقوى منها وأصح إسناداً كما سيأتي بعض من ذلك، وكذلك ما تمسكوا به من قوله تعالى: ?وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌoإِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ?{القيامة:22،23}، إنما هو مجرد ظاهر لا يفيد العلم لاحتماله للتأويل المطابق للآية المحكمة التي لا يجوز تركها والتمسك بالمتشابه، فبقيت الآية على عمومها من نفي الرؤية لجميع المكلفين ولأوقات الدنيا والآخرة.
فإن قيل عليه: إنه استدلال بالعموم ودلالة العموم ظنية كما هو مقرر في موضعه من أصول الفقه.(1/280)

56 / 311
ع
En
A+
A-