دليل ذكره الإمام القاسم عليه السلام في الأساس وهو: أن الله تعالى لم يجبر العصاة على فعل الإيمان والطاعات مع قدرته على ذلك ما ذاك إلا لغنائه تعالى.
وهذا الدليل لا يتناول إلا غناءه تعالى عن إيمان الخلق وطاعتهم وهو في معنى قوله تعالى: ?وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ? {يونس:99}،: ?إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ?{إبراهيم: 8 }.
دليل ذكره الشيخ محمود الملاحمي وهو: أن يقال: إن إثبات كونه تعالى مشتهياً إثبات مالا طريق إليه، وإثبات مالا طريق إليه لا يجوز.
فثبت أن الله تعالى غني لم يزل ولا يزال، ولا تجوز عليه الحاجة إلى شيء بحال من الأحوال.(1/271)


فصل في الكلام في أن الله سبحانه وتعالى لا تجوز عليه الرؤية بحال من الأحوال
تقدم فيما مر أن الله ليس بجسم ولا عرض ولا يجوز عليه ما جاز عليهما، ومن المعلوم بالدلالة العقلية أن الرؤية لا تصح إلا على الأجسام والأعراض، فصار العلم بكونه تعالى لا تصح رؤيته داخلاً فيما مر، لكن اشتهرت المسألة وكثر الخلاف والشقاق فيها من الخصوم الأشعرية، والمجسمة، والحشوية وغيرهم، لما كان ديدنهم إيثار اتباع المتشابه ورفض المحكم ودلالة العقول الهادية إلى الرشاد، وتقليد الأسلاف وارتكاب متن الخلاف والشقاق لقرناء الكتاب وحجج الله على خلقه إلى يوم الحساب أولهم إمام خير القرون وآخرهم طائفة الحق الذين لم يزالوا عليه يقاتلون، وهذا المؤلف لهذا المختصر أحد أمرائهم العادلين فكيف بمجموع كبرائهم الفاضلين؟ فاسمع كلامه ما أبلغه في الاحتجاج وما أفصحه وأقطعه لألسنة أهل اللجاج.(1/272)


قال عليه السلام [ فإن قيل ] لك [ أربك يُرى بالأبصار ؟ فقل: هذه مقالة الفجار وهي باطلة عند أولي الأبصار، ] فانظر إلى ما حوته هذه الفقرة من البلاغة في رد تلك العقيدة الردية والمقالة الفرية حيث سجل على القائلين بجواز الرؤية بأنهم فجار ?وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ?{الإنفطار:14}،وإن مقالتهم باطلة والباطل نقيض الحق، وحيث جعل بطلانها ثابت عند أُولي الأبصار، لأن أُولي الأبصار هم الذين يدور الحق معهم حيث داروا، وليس المراد بهم إلا من جعلهم الله ورسوله قرناء كتابه على الإطلاق ونصبهم سفينة عاصمة لمن اتبعهم عن الإغراق، وترك الجواب في هذا الموضع الخارج على مقتضى السؤال عن كونه يُرى أولا يُرى كما مر، فلم يقل لا يرى الذي هو جواب طبق السؤال فتركه وعدل عنه إلى قوله: فقل: هذه مقالة الفجار وهي باطلة عند أولي الأبصار، إيذاناً وإعلاماً بأن هذا أمر قد فرغ من العلم به، إذ المعلوم بدلالة العقول أن الرؤية لا تصح على غير الجسم أو العرض، وقد قدمنا ما يفيد العلم أنه تعالى ليس بجسم ولا عرض فلا تصح رؤيته بحال، فتجويز رؤيته إما مع التجسيم والتكييف فذلك من أكفر الكفور، وإما مع عدم ذلك فالقول في نفسه غير معقول لما يشتمل عليه من التناقض المحال، فيكون هذا القول نوع من الفجور لأن الفجور نقيض الصدق وليس بصدق لتناقضه، ثم اختصر الرد على الفريقين المجسمة والأشعرية وغيرهم ممن يثبت الرؤية كضرار بن عمرو في قوله: إنه يُرى في الآخرة بحاسة سادسة، بقوله: هذه مقالة الفجار الخ.(1/273)


فهذا ما يتعلق بكلامه عليه السلام في هذه الفقرة اليسيرة من البلاغة والفصاحة الراجعة إلى المعين، فأما ما يرجع إلى اللفظ، فذلك ظاهر لمن له ذوق سليم ولب مستقيم وعقل غير منحرف عن الآل سقيم، وذلك في جزالة اللفظ وحسن الألفاظ لسلامتها عن التعقيد والتنافر، واشتمالها على الجِنَاس التام، والمطرَّف الذي هو من أجل أنواع البديع، وعلى السجع الكامل الذي هو كذلك من أجل أنواع البديع، وعلى التقابل بين الفجار وأولي الأبصار وهو من مقابلة النقيض بما هو شبه النقيض ولازمه، وكون فِقَر السجع وفواصله في ذاته واقعة على جهة التوسط بين القصر والتطويل اللذين ربما يصير السجع معهما غير مدرك إلاَّ مع التأمل، وإسناد الرؤية إلى الأبصار لنكتتين:
أحدهما: التلميح إلى الآية الكريمة التي هي عمدة الدلالة السمعية في المسألة وهي قوله تعالى: ?لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ? {الأنعام:103}.
وثانيهما: الإيماء والإشارة إلى أنه تعالى يُرى بالقلوب الرؤية العلمية اليقينية كما قال أمير المؤمنين: لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، بل تدركه القلوب بحقائق الإيمان. إلى غير ذلك من المعاني واللطائف التي لو اشتغلنا باستخراجها من هذه الجملة اليسيرة لطال الكلام، ولله سر في أئمتك الأعلام.
نعم والقول: بأنه عز وجل لا تصح رؤيته بالأبصار وهو مذهب جميع العترة الطاهرة شموس الدنيا وشفعاء الآخرة، وهو قول سائر الزيدية والمعتزلة وجميع أهل العدل من الإمامية وغيرهم، وهو قول النَّجارية من المجبرة والخوارج وأكثر الفرق الداخلة في الإسلام والخارجة عنه، وحكاه الإمام المهدي عليه السلام في القلائد وابن حابس في الإيضاح عن المرجئة، وفي هذه الحكاية عنهم نظر لأن أكثرهم أشاعرة وكل أشعري مرجي ولا عكس، ويمكن أن ذلك قول بعض المرجئة، فحق العبارة: وهو قول بعض المرجئة.
والخلاف في هذه المسألة مع المجسمة والأشعرية وضرار بن عمرو.(1/274)


وأما المجسمة: فبناءً على أصلهم من: أنه تعالى جسم. والجسم يُرى بلا نزاع، فلذلك نص أئمتنا عليهم السلام لأنه لا كلام لنا معهم في هذه المسألة.
وأما الأشعرية: فلما وافقونا في أنه تعالى ليس بجسم ولا عرض كان من حق الكلام أن لا يخالفوا في عدم صحة رؤيته تعالى، لكنهم تركوا هذا الأصل المعلوم إلى أن قالوا: يُرى بلا كيف فراراً منهم من لزوم التجسيم، ومثل مقالهم مقال ضرار بن عمرو لما لم يكن المعلوم إلا المدرَك بإحدى الحواس الخمس ليس إلا جسماً أو عرضاً وليس ذلك من مذهبه، ذهب إلى القول: بأنه تعالى يُرى في الآخرة بحاسة سادسة والكل فروا إلى فئة غير منيعة واغترار بسراب بقيعة، واتفقوا على أن الرؤية بلا كيف إنما هي في الآخرة وإنما للمؤمنين ثواباً لهم دون الكافرين فيُحرَمونها عقاباً لهم، وخالفهم المجسمة فاثبتوها بالتكييف وفي الدارين وللمؤمنين والكافرين كسائر الأجسام لا تخصيص في رؤيتها بوقت دون وقت ولا شخص دون شخص.(1/275)

55 / 311
ع
En
A+
A-