فصل في الكلام في أن الله عز وجل غني لا تجوز عليه الحاجة إلى شيء أصلاً
والغني له حقيقة في أصل اللغة، وحقيقة في عرف اللغة،وحقيقة في عرف الشرع، وحقيقة في اصطلاح المتكلمين.
أما في أصل اللغة: فهو من استغنى بما في يده عما في أيدي الناس وإن قَلَّ.
وأما في عرف اللغة: فذلك يختلف باختلاف الأعراف والجهات، فلا يكاد يطلق الغني في بعض الأمصار إلا على أهل الثروات الكبيرة.
وأما في عرف الشرع: فهو من ملك نصاباً أو ما قيمته نصاب ولو غير زكوي.
وإما في اصطلاح المتكلمين: فهو الحي الذي ليس بمحتاج.
قلنا: الحي. لأن الميت والجماد لا يوصفان بالغنى، وقلنا: الذي ليس بمحتاج خرج به كل من عداه عز وجل، فلا يندرج تحت هذا الحد غيره تعالى، إذ كل ما سواه محتاج إليه تعالى وهو تعالى، لا يحتاج إلى غيره أصلاً في ذاته من كونه ذاتاً موجوداً،ولا في صفاته من كونه تعالى قادراً عالماً حياً سميعاً بصيراً قديماً لا يشبه الأشياء ولا يفتقر إلى شيء مما يحتاج إليه الجسم من الحيز والجهة والتأليف، ولا إلى ما تحتاج إليه العرض من وجود شبح يقوم به ولا إلى ما يحتاج إليه الحيوان من المأكل والمشرب ونحوهما، ولا إلى ما تحتاج إليه هذه المذكورات كلها وهو الموجد لها الفاعل، فهو تعالى غني على الإطلاق وكل شيء سواه محتاج إليه تعالى.(1/266)


قال عليه السلام [ فإن قيل لك ] أيها الطالب الرشاد [ أربك غني؟ فقل: ] نعم هو تعالى [ غني لم يزل ولا يزال، ] غنياً [ ولا تجوز عليه ] سبحانه وتعالى [ الحاجة في ] أي [ حال من ] جميع [ الأحوال، ] قال الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام : اعلم أن الكلام في تنزيه الله تعالى عن الحاجة إلى المنافع وتوابعها، ومن المضار وتوابعها مما لم يقع فيه خلاف بين أهل القبلة على اختلاف أهوائهم وتباين طرقهم ولا حكي الخلاف في احتياج ذاته تعالى عن غيرهم من الفرق، وقال الإمام القاسم عليه السلام : خلافاً لبعض أهل الملل الكفرية ولعله يعني به ما روي عن فنحاص اليهودي لعنه الله تعالى ومن وافقه فإنه لما نزل قوله تعالى: ?مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ? الآية {البقرة:245}، قال: ما طلب القرض إلا لأنه محتاج، وهو تحامل منه وتجار، وإلا فالآية واردة على سبيل التمثيل والمجاز، وفي تكذيبه نزل قوله تعالى: ?لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ o ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ? {آل عمران:181، 182}، وقيل إن هذا القول إنما صدر عن قائله على جهة التهكم بالقرآن والتوصل إلى إبطاله بإلزام الحاجة على الله تعالى من دون اعتقاد قائله أن الله تعالى ذو حاجة.(1/267)


قلت: وبهذا الكلام يجمع بين كلامي الإمامين عليهما السلام، نعم وقد علم أنه لا مخالف من أهل القبلة في كونه تعالى غنيا،ً لكنه يلزم أهل الجبر القائلين بالمعاني أن الله تعالى محتاج إليها، لأن عندهم أن لولا هي لما كان تعالى قادراً عالماً حياً سميعاً بصيراً مريداً كارهاً متكلماً لَمَّا جعلوا صفاته سبحانه وتعالى المذكورة ثابتة لأجل المعاني التي زعموها، وقالوا: إنها قديمة قائمة بذاته تعالى فلا يكون على قولهم غنياً إذ قد احتاج إليها أبلغ الاحتياج، قال القرشي: وذلك أبلغ من احتياج الحي إلى الطعام والشراب ونحوه،وقد مر إبطال كلامهم بما فيه كفاية.
واعلم أن هذه المسألة من أهم المسائل وأعظمها نفعاً، لأن صحة السمع وجميع مسائل العدل والنبوة والوعد والوعيد متوقف على العلم بها وعلى العلم بمسألة عالم، ولذلك كان حكمهما حكم مسألة إثبات الصانع في أنه لا يصح الاستكفاء في الاستدلال عليهما بالسمع اتفاقاً، لتوقف العلم بصحته على العلم بكونه تعالى عالماً بقبح القبيح وكونه غنياً عن فعله، فيعلم بعد ذلك أنه تعالى لا يكذب، فينتج العلم بصحة السمع وجميع الكتب والنبوات وما يترتب عليها من الوعد والوعيد والشرائع، فينبغي حينئذ تحرير أدلتها العقلية وتقرير براهينها النقلية وفي المسألة أدلة اعتمد المؤلف عليه السلام أحدها، وسنذكر بعد حكاية كلامه ما سنح منها، وينسب تحرير هذا الدليل إلى أبي علي الجبائي، والله أعلم، وتحريره على ثلاثة أصول:
الأصل الأول:
أشار إليه عليه السلام بقوله [ لأن الحاجة لا تجوز ] بمعنى لا يصح فرضها وتقديرها [ إلا على من جازت عليه المنفعة والمضرة، واللذة والألم، ].
وحقيقة المنفعة: هي اللذة والسرور وما أدى إليهما أو إلى أحدهما.
وحقيقة المضرة: هي الألم والغم أو ما أدى إليهما أو إلى أحدهما.
وحقيقة اللذة: هي المعنى المدرك بمحل الحياة فيه مع الشهوة.(1/268)


وحقيقة الألم: هي المعنى المدرك بمحل الحياة فيه مع النفرة.
[ و ] بهذه الحدود والحقائق علم أن [ هذه الأمور لا تجوز إلا على من جازت عليه الشَّهوة والنَّفرة، ].
وحقيقة الشَّهوة: حركة النفس طلباً للملائم.
وحقيقة النَّفرة: هي حركة النفس دفعاً للمضرة.
فثبت الأصل الأول، وهو أن الحاجة لا تجوز إلا على من جازت عليه المنفعة الخ.
وأما الأصل الثاني:
فقد أشار إليه المؤلف عليه السلام بقوله [ وهما ] يعنى الشهوة والنفرة [ لا يجوزان ] وكان الأولى في العبارة أن يقال: وهذه الأوصاف لا تجوز [ إلا على الأجسام، ] الحيوانات، ثم أخذ عليه السلام في تحقيق هذا الأصل وتقريره بقوله [ فَيَستر الجسم بإدراك ما يشتهيه ويلتذ به وينمو ويزداد ] في أغلب الأحوال [ بتناوله، ] وإنما قلنا: في أغلب الأحوال، ليخرج الجِمَاعُ ونحوه مما يلتذ به مع أنه ينقص بتناوله [ ويغتم بإدراك ما يَنْفُر عنه ويتضرر به، وينقص ] في أغلب الأحوال، [ بتناوله. ] ويخرج بقولنا: في أغلب الأحوال تناول الأدوية المنافرة ونحوها مما ينفر الطبع عنه ويزداد الجسم بتناوله.
فثبت الأصل الثاني وهو أن هذه الأمور لا تجوز إلا على الأجسام.
وأما الأصل الثالث:
فقد أشار إليه المؤلف عليه السلام بقوله [ وقد ثبت ] بما مر من الكلام في الفصل السابق [ أنه تعالى ليس بجسم، بل هو خالق الجسم، ] فلو فُرض عليه تعالى جواز الحاجة والمنفعة والمضرة لكان جسماً [ فكيف ] يكون جسماً و [ يخلق ] جسماً [ مثل ذاته، أو تشاركه الأجسام ] إن قدرنا عليه الحاجة، فتشاركه الأجسام حينئذ [ في ] شيء من [ صفاته ] وهو الاحتياج بل يلزم من ذلك الاشتراك في جميع الصفات، لأن الاشتراك في شيء من صفات الذات يوجب الاشتراك في سائر صفات الذات كما تقدم تقريره مراراً.(1/269)


فثبت الأصل الثالث وهو أنه تعالى ليس بجسم، وبثبوته مع الأصلين الأولين، ثبت أنه تعالى غني عن غيره ليوجده تعالى أو ليجعله على صفات الكمال أو ليتناول منه ما يتناوله الجسم الحي من المنافع ودفع المضار [ بل لا يجوز عليه تعالى شيء من ذلك ].
ولا يخفى أن هذا الدليل المذكور إنما يتناول استغناءه تعالى عما يتناوله الحي من جلب نفع أو دفع مضرة دون استغنائه تعالى في وجود ذاته وكمال صفاته، فالدليل غير متناول لذلك بالصراحة بل باللزوم من كونه تعالى ليس بجسم فتأمل، ولكن يمكن الاعتذار بأن ما ذكر قد علم مما مر أنه تعالى قديم، وأن صفاته تعالى ثابتة له لذاته، لا لأمر زائد على ذاته فلو ذكرها هنا لكان غير لائق بالاختصار، والدليل الذي يشمل استغناءه تعالى في جميع ما ذكر هو ما ذكره شيخنا رحمه الله تعالى في السمط بقوله: دليل: من صح وجوده ولا شيء معه فهو غني.
فهذا كما ترى من أفصح الكلام وأبلغه وأوجزه مع شموله وإيجابه غناه سبحانه وتعالى عن كل شيء، وتقريره على أصلين:
أحدهما: أن الله تعالى قد صح وجوده ولا شيء معه.
فهذا الأصل هو المسمى عند المناطقة بالمقدمة الصغرى، وقد تحذف كثيراً إذا كانت معلومة ولذلك لم يذكره.
والأصل الثاني: قوله: ومن صح وجوده ولا شيء معه فهو غني.
وهذا معلوم بأدنى تأمل إن لم يكن ضرورياً، دليل اعتمده مع الدليل السابق المؤيد بالله وحكاه شيخنا رحمه الله في الحاشية عن الإمام المهدي والقاسم عليهما السلام وغيرهم قال: ونسبوه - يعني تحريره- إلى ابن عباس وهو: أنه لو كان تعالى مشتهياً لكان مشتهياً بذاته فيكون مشتهياً لكل المشتهيات، كما أنه لما كان عالماً وقادراً بذاته كان عالماً وقادراً بكل المعلومات والمقدورات، فكان يلزم وجود المشتهيات كلها دفعة واحدة لاشتهى بها كلها مع قدرته عليها، وقد علمنا بعدم وجودها دفعة دلالة على كونه مستغن عنها.(1/270)

54 / 311
ع
En
A+
A-