قلت: ولاختلاف الأئمة عليهم السلام في العرش والكرسي كما مر لم يصر القول فيهما قطعي الدلالة فلحقت المسألة بالظنيات، غير أنه لا يعمل بالظني إلا في المسائل العملية دون العلمية، فإذا انتفى الدليل القاطع فيها لم يجز العمل بالظن لقوله تعالى: ?ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً? {الإسراء:36}، وحينئذ فيجب الوقف هل العرش والكرسي حقيقة أو مجاز، لأن الدليل العقلي إنما دل على بطلان القول بأنه يجوز عليه تعالى الاستقرار في عرش أو كرسي أو على أي مكان لا على بطلان القول بخلقهما على الحقيقة قبلة للملائكة أو لحكمة خفيت علينا، أو لأن في خلقهما والعلم بذلك لطف لبعض المكلفين فالكل لا مانع منه وقوله تعالى: ?وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ? {الزمر:75}، ظاهر الآية يشهد للقول الثاني، وقد جعله الإمام القاسم قدس الله روحه مجازاً وتعبيراً عن تعظيم الملائكة عليهم السلام لله تعالى أبلغ تعظيم حيث كان المخاطب لا يعرف التعظيم البالغ في الشاهد إلا للملوك عند الحفوف بها وهي على أسرتها، وهذا كما ترى تأويل خلاف الظاهر لكن لما لم يكن في المسألة إجماع على أحد القولين صارت مترددة بين الاحتمالين ولا مُرَجِّح غير الظنيات من ظواهر الآيات والروايات الآحاديات، فلزم الوقوف مع القطع بأنه تعالى ليس بذي مكان لإجماع العترة عليهم السلام على ذلك، وإجماعهم حجة قطعية كما هو مقرر في موضعه، وسيأتي الاحتجاج عليه إن شاء الله تعالى، ولقضاء العقل بذلك وعدم تجويز المكان عليه تعالى، وهذا هو اللازم معرفته على المكلف دون العلم هل العرش والكرسي حقيقة أم مجاز ؟ فهذا ما ظهر في المسألة، والله أعلم.(1/261)
ثانيها: اللوح، قال القاسم بن إبراهيم وولده محمد والحسين بن القاسم العياني والإمام القاسم صاحب الأساس والإمام الشارح عليهم السلام: هو عبارة عن علم الله ولا لوح حقيقة.
وقال زيد بن علي والسادة والمتوكل على الله والمنصور بالله والإمام يحيى والمهدي عليهم السلام وغيرهم والجمهور: بل حقيقة، وجبريل عليه السلام يأخذ الوحي منه ولتعليم الملائكة ما فيه، واختلفت الروايات عن الهادي عليه السلام فحكاه شارح الأساس مع أهل القول الأول، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى ناقلاً عن كتاب الديانة له عليه السلام مع أهل القول الثاني.
قلت: وسبيل هذه المسألة كالتي قبلها لفقد الدلالة القطعية، وقد احتج في الأساس وشرحه لأهل القول الأول بأنه لا يحتاج إلى الرصد إلا ذو الغفلة، وهذا إنما يلزم لو لم يجعل الرصد لتعليم الغير كالملائكة عليهم السلام، وذكر شيخنا رحمه الله تعالى ما احتج به أهل القول الثاني وهو قوله تعالى: ?فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ? {البروج:22}، ?لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ? {الواقعة:79}، ?إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ? {سبأ:3}، وعلم الله: ذاته، ولا يستقيم تأويله في الكل.(1/262)
قلت: وهذا معترض بأنهم لم يريدوا بالعلم هاهنا إلا التعبير عن كونه تعالى عالماً بأن أثبت اللوح عن كونه تعالى عالماً، فلا يستقيم اعتراضه بقوله: وعلم الله ذاته. لأن المراد من ذلك أن الأمر الذي لأجله كان تعالى عالماً هو ذاته لا معنى ولا صفة ولا مزية زائدة كما مر تحقيقه، وقوله رحمه الله: ولا يستقيم تأويله به في الكل، يقال فيه: أما قوله?فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ? ونحوها مما ذكر فيه لفظ اللوح أو الكتابة فلا مانع بل هو مستقيم، وأما قوله: ?لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ ? فالمذكور قبلها ?إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ o فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ?{الواقعة:77-78} وهي نظير قوله تعالى: ?إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ?، والكلام في اللوح لا في الكتاب إلا إذا جعلنا الكتاب بمعنى اللوح، فيمكن أن الضمير في:?لا يَمَسُّهُ ?يعود إلى المصحف لا إلى اللوح، ولذا جعلت الآية أحد أدلة منع الجنب وهو مس المصحف على أن قوله تعالى: ?لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ?{سبأ:3}، لو حمل الكتاب على اللوح الحقيقي لما لائم ?لا يَعْزُبُ عَنْهُ? لا يغيب منه - أي عن علمه - لأن الضمير في عنه يعود إلى الباري تعالى، لأن أول الآية: ?وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ?، لأنا إذا جعلنا قوله: ?إلا في كتاب مبين ?، تأكيد للعلم وكناية عن عدم غيبوبته أي شيء من علمه تعالى كان أفصح وأبلغ، سيما لو حمل على اللوح حقيقة لأن تقدير الكلام على الوجه الأول ?لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ? إلا في علمه تعالى، فهو في التأكيد كما يقال لا(1/263)
ملجأ من الله إلا إليه.
وعلى الوجه الثاني يصير تقدير الكلام?لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ? إلا في لوح مبين، ولا يلزم من كون الشيء مكتوباً في لوح أو غيره أن يكون معلوماً فضلاً عن التأكيد،وإنما يلزم من كونه مكتوباً أن يحفظ إلى عند الطلب والاحتياج.
فإن قيل: عليه أن الكَتْبَ هو لتعليم الملائكة عليهم السلام لا لما ذكرتم من الحفظ إلى عند الطلب والاحتياج.
قيل: هذا الجواب غير مستقيم في هذه الآية لخروج الكلام معه من مبحث إلى مبحث غير ما سبق الكلام فيها من أجله وهو الإخبار بكمال عالميته تعالى وإحاطته بكل شيء علماً، وذلك مستهجن، وإنما هذا يصلح رداً على من يعترض أصل المسألة في أن اللوح حقيقة بما ذكر فتأمل، والله أعلم.
قال رحمه الله: وروي فيه أنه من زبرجدة خضراء، وأخرج عبد الله بن أحمد وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خلق الله الدواة ثم خلق اللوح فكتب فيها أمر الدنيا حتى تنقضي، ثم قال: ?وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ?{ الأنعام: 59}.
قيل: وهو أول مخلوق، وقيل: أول مخلوق الهواء، روى الهادي عليه السلام عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أول ما خلق الله الهواء"، وقيل: نور نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لِمَا أخرج عبد الرزاق عن جابر أنه قال: يا رسول الله أخبرني عن أي شيء خلقه الله قبل الأشياء؟ قال:" يا جابر إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث يشاء ولم يكن في ذلك الوقت لوح، ولا قلم، ولا جنة، ولا نار، ولا فلك، ولا سماء، ولا أرض، ولا شمس، ولا قمر" الخبر.
ثالثها: قالت الحشوية: إن الله تعالى لا داخل في العالم ولا خارج، نفي له تعالى.(1/264)
قلنا: لا نسلم أن ذلك نفي له تعالى، وإنما ذلك نفي لأن يكون له تعالى جهة داخلة في العالم أو خارجة عنه، لأنه تعالى ليس بمتحيز ولا حال في متحيز كما مر، وما كان كذلك استحال أن يحصل في جهة، ولأن الدخول والخروج صفة الجسم ونفي لأن يكون تعالى من جنس العالم، قال إمام العارفين صلوات الله عليه: ليس في الأشياء بوالج ولا هو عنها بخارج.
وقال عليه السلام : لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن، ولم ينأ عنها فيقال هو عنها مباين.
وقال عليه السلام : مع كل شيء لا بمقارنة، وغَيْرٌ لكل شيء لا بمزايلة.
على أنه يقال: قد ثبت بالأدلة القاطعة أن العَالَم مُحدَث، وأن الله تعالى قديم، فقبل أن يخلق العالم لا يتصف عز وجل بالدخول في العالم ولا بالخروج عنه، ولا بد لهم من الإقرار بهذا، وإلا كفروا أو كابروا، فيقال: فكما لا يكون ذلك نفياً له قبل وجود العالم، لا يكون ذلك نفياً له تعالى بعد وجود العالم وهذا واضح وبالله التوفيق.(1/265)