قال رحمه الله: هذا يعني ما ذكره المؤلف عليه السلام تأويل أكثر التابعين والأئمة، وأما علماء البيان وهو الذي جنح إليه الإمام يحيى عليه السلام في الطراز والإيجاز والمهدي والزمخشري أنه لا يتمحل للمفردات فيقال في نحو: ?يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ? ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ? على اليد كناية عن البخل، وبسطها كناية عن الجود ونحوها. انتهى كلامه والمسك ختامه.
[ و ] ما ذكر من أن له [ جنباً في قوله تعالى ] حكاية عن من يتحسر في عرصة المحشر على ما فاته واقترفه في الدنيا من الطاعات والمعاصي [ ? يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ? ]، فليس المراد به الجنب على حقيقته وهو العضو المخصوص إذ لا معنى للتفريط فيه، وإنما المراد في جنب الله [ أي: في طاعته ]، فالجنب بمعنى الطاعة والحق الثابت للمطاع، وورود الجنب في لغة العرب بهذا المعنى شائع مستعمل، قال:
أما تَتَّقِيْنَ اللهَ في جَنْبِ عَاشِقٍ .... لَهُ كَبِدٌ حَرَّا عَلَيْكِ تَقَطَّعُ
أي الحق الذي له.
ويأتي بمعنى: الجانب/ قال:
النَّاسُ جَنْبٌ والأمِيْرُ جَنْبُ
أي الناس في جانب والأمير في جانب، ثم لا يخفى أن التخييل الذي يعتمده البيانيون في تأويلهم مستبعد في هذه الآية، لاستحالة التفريط الحقيقي في الجنب الحقيقي الذي هو العضو المخصوص من الإنسان وغيره من الحيوانات،ولهذا قلنا إن في بعض المواضع يكون فيها تأويل المتكلمين أولى كما مر.
وقد يستعمل الجنب بمعنى الجهة كقوله:
كأنَّه خَارِجٌ مِنْ جَنْبِ صَفْحَتِهِ .... سَفُّودٍ شَربٍ نَسَوْةُ عند مُفْتَأَدِ
أي من جهة صفحته.(1/251)


[ و ] ما ذكر من أن له تعالى[ نفساً في قوله تعالى ] حكاية عن عيسى عليه السلام [ ?تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ] إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ]? {المائدة:116}، [ فالمراد به تعلم سري وغيبي ]، أي ما أضمرته وأسررت به [ ولا أعلم سِرَّك وغيبك ]، أي ما أخفيتَه وغيبته عني، فأتى بلفظ نفس الثانية ليشاكل بها نفس الأولى، وإن كانت النفس في حق عيسى عليه السلام أريد به النفس الحقيقية وهي العرض القائم بالقلب الداعي إلى الوسوسة وإضمار بعض ما خصر عليها وإظهار بعضه ويدعو إلى تناول المشتهيات والمستلذات والمنافسة للغير والمفاخرة والمكاثرة، وحاصل الكلام فيما بين النفس والعقل أنهما يتفقان من جهة كون كل منهما عرض محله القلب لا يجوزان على الله تعالى، وإنما هما من صفات الحيوان المحدث.
قال السيد حميدان رحمه الله تعالى: مثل حلول العقل فيه أي في القلب كمثل حلول البصر في العين ولذلك قال تعالى: ?أم لهم قلوب يعقلون بها ?، وقال: ?فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ? {الحج:46}، ومثل حلول النفس فيه كمثل حلول الحرارة في النار، ولذلك قيل: إنها تقوى بالوسواس كما تقوى النار بالحطب.
قال: واعلم أن وجه الحكمة في خلق العقل هو: كونه نعمة من أتم النعم، وحجة من أبلغ الحجج، وكونه هادياً إلى طريق النجاة.
ووجه الحكمة في خلق النفس هو: ما فطرت عليه من محبة مالا بد من إصلاحه من أمور الدنيا.
ووجه الحكمة في مقارنة النفس للعقل هو ما أراده الله سبحانه في ذلك من الاختبار والامتحان.
هذا ما ذكره عليه السلام في حقيقة العقل والنفس عند أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم، ثم حكى معناهما عند الفلاسفة وأهل التناسخ والمطرفية وغيرهم، ثم ذكر الفرق بين النفس والعقل من وجوه:
أحدها: في التسمية والاشتقاق.(1/252)


فإن العقل من عقل نَوَّاد الإبل، والنفس مشتركة بمعنى الذات ? يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا ? {النحل:111}،وبمعنى الروح ?اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا? {الزمر:42}، وبمعنى الدم نحو ما في الشرع من طهارة ميتة مالا نفس له سائلة، وبمعنى النفس المقارنة للعقل وهي هذه التي الغرض الفرق بينها وبين العقل.
وثانيها: اختلافهما في نفس الوجود.
وذلك لأن الله تعالى جعل وجود النفس مقارناً لأول وقت وجود الحياة لأجل كون الحي من البشر مشتهياً ونافراً، والشهوة والنفرة من طبائع النفوس التي فطرها عليها لما علم في البلوى بذلك من المصلحة والحكمة البالغة.
وثالثها: اختلاف صفاتها.
لأن من صفات العقل كونه هادياً إلى الرشاد ومميزاً بين الأضداد من التمييز بين الحق والباطل والخير والشر، وداعياً إلى مكارم الأخلاق، وإدراك الأحكام العقلية من التماثل والتخالف، والوجوب والاستحالة، واللزوم وعدمه، وحسن تحمل الأحكام الشرعية، ولحسن مكارم الأخلاق ولغير ذلك من محمود الخصال، ومن صفات النفس كونها كما قال تعالى أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي وموسوسة ومسوِّلة وداعية إلى الحرص والجزع والهلع والشح والطيش، ونحو ذلك من مذموم الأخلاق.
ورابعها: اختلافها في النظر والاستدلال.
وذلك لأن نظر العقل هو التفكر في الصنع من حيث هو حكمته ومفتقر إلى فاعل قادر عالم حي ونحو ذلك من الاعتبارات الصحيحة، ونظر النفس من حيث التظنن والتوهم وتتبع مواضع الشبهة والحرص بلا دليل وتتبع المتشابه ونحو ذلك مما يعتمده أهل الإلحاد كما قال تعالى: ?بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ? {الروم:29}، وكتلبيس أهل الزندقة على المتعلمين.
وخامسها: اختلافهما في مادتهما.(1/253)


وذلك لأن العقل مستمد من توفيق الله تعالى وتسديده ولذلك قال تعالى: ?وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى? {محمد:17}، ويستمد من محكم الكتاب والسنة وعلوم أئمة الهدى،والنفس تستمد من وسواس الشيطان ومن الشبه والمتشابه ولذلك قال تعالى: ?يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ? {الأنعام:112}.
وسادسها: اختلاف أحوال أتباعهما.
لأن المتبع لعقله يقف عند حد قدره لئلا يجهل فضلاً من فضل الله عليه، ويقف عند حد عقله لئلا يغلو في دينه غير الحق، والمتبع لهوى نفسه يخوض فيما وراء حد عقله ويتكبر على من هو أفضل منه ويحسده ولذلك قال تعالى: ?أَفَكُلمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ?{البقرة:87}، وقال تعالى: ? فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ? {القصص:50}.
قال واعلم أن هذه الفروق وما أشبهها هي التي يعلم بها ضلال كل معطل ورافض، وكذب كل مُدَّع أن عقله دله على صحة مخالفته للحق وأهله، وبه يعلم الفرق بين ما يعلم ولا يُتوهم نحو الباري سبحانه وتعالى وبين ما يتوهم ولا يعلم نحو ما تقدم ذكره من بدع الفلاسفة وغيرهم، ويعلم به الفرق بين العالم والمتوهم انتهى كلامه عليه السلام مع بعض تصرف واختصار.(1/254)


قلت: ومن الوجوه التي يجتمع فيها العقل والنفس والتي يفترقان فيها هو أن عند إدراك الحواس الخمس لما تدركه من المسموع والمبصر والمشموم والمطعوم والملموس وغيرها يقع تعلق العقل والنفس بتلك المدركات ونحوها كحب الرئاسة والفخر، والعقل والنفس يتفقان في التعلق وهو الارتباط بتلك المدركات ونحوها، ثم يفترقان من حيث أن النفس تدعو إلى كل ملائم للطبع من غير فرق بين حسن وقبح وحل وحرمة وتعلق مدح وذم ونظر في العواقب، والعقل لا يدعو إلى شيء منها إلا ما كان على صفة الحسن وعدم مقارنة مضرة أو مفسدة أعظم من نفع المتناول ومصلحته العقلية، وموافقة أمر الشارع في الحل والحرمة ونحوهما، ومجانبة ما يقع عليه الذم والعار عرفاً وما عاقبته سوء، ومن ثمة قال أهل الحكمة: إن العقل والنفس يتنازعان فيما وقع فيه الاختلاف بين العقل والنفس فمن غلب عقله على نفسه ألحق بالملائكة عليهم السلام، ومن غلبت نفسه على عقله ألحق بالبهائم، وأُس كل خير الانقياد للعقل والزهد والصبر، وأُس كل شر الانقياد لهوى النفس والطمع والجزع.(1/255)

51 / 311
ع
En
A+
A-