ولنعود إلى تمام المقصود فيما نحن بصدده فنقول: قد عرفت أيها الطالب الرشاد أن الآيات المشعر ظاهرها التشبيه لا يحملها على حسب الظاهر ويعتقد وصفه تعالى بالجوارح والأعضاء والكون في الجهات إلا المجسمة دون سائر فرق الإسلام، فلم يوافقهم أحد في ذلك، وإن اختلف أهل التنزيه والتوحيد في كيفية توجهها وتأويلها بين القريب والأقرب والبعيد والأبعد حتى أن بعض المنزهين لمَاَّ لم يسلك في تأويلها مسلك المتكلمين وأبقاها على ظاهرها من دون اعتقاد معناها الذي هو التجسيم ظن أن ذلك ليس بتأويل،وقال في ذلك وقد أحسن وأجاد وأفاد بالمراد ولله دره حيث سلك مسلك البيانيين في التأويل وإن لم يسلم أنه تأويل فالقصد من العقائد الاتفاق في المعنى، فإن اختلف في العبارة والمبنى فقال رحمه الله تعالى مجيباً على من سأله:
وجهت لي مَسائلا .... قد حار فيها الفُطَنا
علم أصول ديننا .... لأجلها قد دُوِّنَا
واختلفت أقوالُهمْ .... فيها اختلافاً بَيِّنا
وكل حزب مِنْهُمُ .... يقصد قصداً حَسَنا
فالقائلون بالمجاز .... قد نزهوا خالقَنا
والآخرون سكتوا .... وآمنوا بما عَنَا
وخيرها أسلمها .... والصمت خير مُقْتَنا
فالله غيب كله .... عن علمنا قد بطنا
لكنه دَلَّ بما .... نعرفه من الثنا
على عظيم شأنه ....تعَرُّفاً منه لنا
وهو تعالى شأنه .... أكبر مما دلنا
فامش على اللفظ الذي .... قال به إِلهُنا
والنفس إما طَمِحَت .... فقل لها إلى هنا
إِنكِ إن أَوَّلتِهِ .... زال البَهاءُ والسَّنا
ولم تجد من بعده .... لفظاً يكون أحسنا
فهذه عقيدتي .... واسلم بقيت الزمنا(1/246)
وهذا هو معنى ما ذكره الإمام يحيى عليه السلام ، ويظهر من عبارة الأساس للإمام القاسم بن محمد قدس الله روحه حيث قال في قوله تعالى: ?لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?، وقوله: ?تجري بأعيننا ?، فالعلاقة المشاكلة ليشاكل كلمة اليد المقدرة الخاطرة بذهن السامع عند سماعه قوله تعالى: ?لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?، لما كان المخاطب لم يشاهد بناءً ولا صنعاً إلا باليد، وعبر عن حفظه للسفينة بقوله تعالى: ?تجري بأعيننا ?، مشاكلة لكلمة العين المقدرة الخاطرة بذهن السامع، لما كان لا يتم حفظ مثله لأحد في الشاهد إلا بمتابعة أبصارها بالعين الخ كلامه عليه السلام .(1/247)
ويظهر من كلام الشيخ محمد بن صالح رحمه الله ما مر من حكايته وهو أن المراد بذلك التخييل والاستعارة التمثيلية، وهو أفصح وأبلغ من تأويل أهل علم الكلام الذي اعتمده المؤلف عليه السلام ، ألا ترى أن قوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ?، إذا جعلنا اليد بمعنى القدرة لما كانت محلاً لها في الشاهد يصير المعنى كذلك في هذه الآية، إذ يصير تقدير الآية إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله قدرة الله فوق قدرتهم، وينبني بعد هذا التقرير من المجازات التي لا حاجة لارتكابها من أن الفوقية إنما تستعمل في المعاني تجوزاً، والقدرة في حقه تعالى مجاز عن كونه تعالى قادراً، والقدرة في حقهم مجاز عن الأيدي المصافح بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، هذا إن جعلنا التقدير قدرة الله فوق قدرتهم، وإن جعلناه قدرة الله فوق أيديهم فالمعنى أرك والمسلك أضنك بخلاف ما إذا أبقينا اليد على وضعها اللغوي وهي الجارحة وجعلناها في حقه تخييلاً في ذهن المخاطب والسامع وقصدنا بذلك التخييل المشاكلة للأيدي الحقيقة المصافحة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم حال المبايعة له، وأردنا ترشيح الاستعارة التخييلية بإثبات الفوق على أصل وضعه اللغوي بالتخييل كان ذلك أبلغ من الوجه الأول في إثبات الحجة وتأكد اللزوم بوفاء تلك البيعة وأفصح في الكلام وأثبت موقعاً في النفس وأقرب في التجور وأسرع إلى فهم كيفيته وأدخل في النفس قبولاً له ولجريه وصلاحيته في كثير من المواضع التي لا يراد بها ظاهرها بخلاف الوجه الأول، فإنه قد يكون بعض المواضع غير صالح ولا مستقيم ولانحصار وجوه العلاقة وتعذر بعضها في بعض المحلات أو لكونها علاقة بعيدة فلا تستعمل بخلاف التخييل فلا انحصار له ولا يتعذر في أي موضع.
ولا يقال: إن بهذا الكلام قد أبطلنا تأويل المتكلمين ورددناه بأصله.(1/248)
لأنا نقول: إنما أردنا بهذا أن تأويل البيانيين وأهل المعاني أقرب وأيسر وأظهر، لأن تأويل المتكلمين باطل من أصله بل يكون في بعض المواضع أرجح وأظهر كما في قوله:
وما من يد إلا يد الله فوقها .... ولا ظالم إلا سيُبْلَى بظالم
فإنه لو سلك في هذا البيت مسلك التخييل وحملت الفوقية واليد على معناهما الأصلي لكان المعنى في الفصاحة والبلاغة دون ما إذا جعلنا اليد بمعنى القدرة فتأمل ولكل مقام وجه من ترجيح أحد المسلكين على الآخر يظهر بالذوق والفهم عند التقادير المنبني عليها كل واحد من المسلكين وبالله التوفيق.
I(1/249)
معاني اليد والجنب والوجه والعرش وغيرها الواردة في القرآن
قال عليه السلام [ فقل: يداه ] في الآية الأولى [ نعمتاه، ] من تسمية الشيء باسم آلته لما كانت اليد آلة لإيصال النعمة إلى المنعم عليه في الشاهد، ويقال لفلان على فلان يد عظيمة أي نعمة، وتصح تثنيتها على هذا المعنى قال الشاعر:
ويدانِ بَيْضَاوَان عِنْدَ مُحَلَّمٍ .... قَدْ يَمْنَعَانِكَ أنْ تُضَامَ وتُهْضَمَا
[ وَيَدُهُ ] في قوله تعالى: ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?{ص:75}، [ قدرته ] لكنها في الآية بصفة التثنية لما كانت القدرة في الشاهد محلها اليدين معاً، ويمكن أن يقال أراد التخييل لما كانت الأعمال والإحداثات في الشاهد باليدين جميعاً، لأنا إذا جعلنا اليد بمعنى القدرة لزم تثنية القدرة لتثنية اليدين فيحتاج إلى تكلف للتصحيح والتوضيح كما قالوا في: ? بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ?{المائدة:64}، أراد نعمة الدنيا ونعمة الدين أو نعمة الدنيا والآخرة أو الظاهرة والباطنة بخلاف ما إذا جعل من باب التخييل فلا كلفة للتصحيحه، [ والأيدي ] في الآية الثانية وهي قوله تعالى: ?مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا? {يس:71}، [ هي: القدرة، والقوة أيضا.ً ] عطف تفسيري، لأن القدرة والقوة بمعنى واحد، ومثل هذه الآية قوله تعالى: ?وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ ? {الذاريات:47}، قال الناصر للحق عليه السلام : تجمع التي بمعنى القدرة على أيد والتي بمعنى النعمة على أيادٍ. حكاه شيخنا رحمه الله، قال وفي كلام: أن الأول جمع قِلَّة والثاني جمع كَثرة ولا فرق، والإمام أصدق وأحق. قال: وتأتي اليد بمعنى: الملك، يقال الدار في يد فلان - أي في ملكه-، وتأتي اليد لغير ذلك.
قلت: وذلك كاليد عند علماء الشريعة والحكام في قولهم: من كانت اليد له فالظاهر معه، يريدون بذلك ثبوت التصرف وكون القول قوله، وعلى الخصم المنازع في الملك البرهان.(1/250)