وثانيهما: أن يكون الناصب له فيتبعون، فيكون المعنى يتبعون المتشابه يريدون الفتنة للناس عن دين الحق وصدهم عنه، ويريدون تأويله على حسب اعتقاداتهم الرديئة وضلالاتهم الكفرية، ثم عطف على هذه الجملة بقوله: ?وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ?، وهو يحتمل تنزيله وتوجيهه إلى المعنيين المذكورين، فإن كان على الأول كان التقدير أنزل الكتاب على وجهي: الإحكام والتشابه، ليعرفوا تأويله وما يعرف تأويله الموافق المطابق للحق منهم إلا الراسخون في العلم، وإن كان على الثاني كان التقدير إن الذين في قلوبهم زيغ يتبعون تأويله وليسوا من أهله، لأنه ?مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ?، وهؤلاء المتبعون المتشابه ليسوا راسخين في العلم إنما هم راسخون في الجهل الشديد والزيغ البعيد، ثم قوله تعالى: ?يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا?، يحتمل أن يكون مقولاً من الراسخين، لأنهم لما وقفوا على معنى القسمين وتيقن لديهم صحة كل من الضربين على وجه لا يناقض الآخر بل يعضده ويقويه ويبينه صح لهم أن يقولوا: ?آمَنَّا بِهِ كُلٌّ ? أي كل واحد من المحكم والمتشابه ?مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ?، ويحتمل أن يكون مقولاً من الذين في قلوبهم زيغ، فتكون كلمة حق أرادوا بها باطلاً وهو تكميل احتجاجهم على من أرادوا أن يفتنوه عن اعتقاد الحق في العدل والتوحيد والوعد والوعيد وسائر المسائل القطعية الأصولية أو فروعيه، فيقولون له: كل من عند الله، فليس الاحتجاج بهذا أولى من الاحتجاج بهذه، ثم قال: ?وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الأَلْبَابِ?، ختم الله الآية وقفلها بهذه الجملة تأكيداً لما سبق إليه الكلام، فيكون ايقاضاً وإلهاماً لطالب الحق أن يتذكر ويسلك مسلك أولي الألباب، ويكون ردعاً وزجراً وتسجيلاً على من زاغ وترك الحق أنه قد فارق التذكر الواجب عليه وهو النظر الصحيح(1/241)


الذي لم يسلكه ?إِلا أُوْلُوا الأَلْبَابِ? فتأمل أيها المسترشد رحمك الله وإيانا كم حوت هذه الآية الكريمة من أسرار لطيفة مفيدة ومعان منيفة غير بعيدة، وإذ قد فرغنا من المقصود قبل الخوض في شرح ما أورده عليه السلام بهذا المختصر في المتشابه.
فلنرجع إلى الكلام فيما ذكره عليه السلام بقوله [ فإن قيل: ] لك أيها الطالب الرشاد [ إنه قد ذكر في القرآن أن يداه ] سبحانه وتعالى [ مبسوطتان ] فيما قاله عز وجل رداً على اليهود لما قالوا ?يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ? أرادوا بذلك الكناية عن البخل المتوهمين له من قبض الأرزاق عليهم وتضييقها وتقليلها، فرد عليهم بقوله: ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ? {المائدة:64}، ولا يخفى على العارف بموارد اللغة العربية ومواقعها من البلاغة والفصاحة أنه لا يستقيم هاهنا أن المراد باليد والغل والبسط معانيها الحقيقية، وأن الخبر أصلاً وجواباً مساق للإخبار بذلك، تعالى الله عما هنالك، فلا بد من تأويله وتنزيله على وجه يصح أن يكون هو المراد من مساق الإخبار، [ و ] كذلك ما ذكر في القرآن الكريم [ أن له ] تعالى [ جنباً، وعيناً، ونفساً، وأيدياً لقوله ] تعالى: ?أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ [ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ] أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ? {يس:71}، وغير ذلك من الآيات التي فيها ذكر ما يوهم التجسيم من أن له تعالى وجهاً أو أنه في جهة كقوله تعالى: ?أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ? {الملك:16}، ?الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى? {طه:50}، وغير ذلك من المتشابه في الكتاب.
أو في السنة كما ورد أن العبد إذا أكمل وضوء الصلاة واشراطها وأحسن أداءها، فإن الله يضحك لذلك حتى تبدوا نواجذه، فإن ذلك إن صح فإنما هو على جهة المبالغة في قبولها وعدم ردها.(1/242)


وكما ورد في أحاديث النزول ليلة عرفة مع الحجيج ومباهاته عز وجل ملائكته بهم، فإنما ذلك كناية عن رضائه عنهم وانصرافهم مغفوراً لهم، وفي السنة كثير من ذلك صار شبهة للجاهلين وفتنة للضالين، ومع ورود ذلك في الكتاب العزيز فلا يمكن رد ما ورد من السنة بالأسانيد المعتبرة والطرق المتكاثرة إلا ما لا يحتمل التأويل المطابق للحكم وللأصول المقررة.
وكذلك ورد في كلام أمير المؤمنين عليه السلام : الحمد لله العالي في دنوه والداني في علوه،وقوله: الذي بَعُدَ فَنَاءً، وقَرُبَ فَدَنَا، وعلا بحوله ودنا بطوله.
وقوله: والسماوات ممسكات بيده مطويات بيمينه سبحانه وتعالى.
وقوله: فاتقوا الله الذي أنتم بنعمته نواصيكم بيده وتقلبكم في قبضته. إلى غير ذلك.
قال الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام في الطراز ما لفظه: فإذا قام البرهان العقلي على استحالة هذه الأعضاء على الله تعالى، وأنه منزه عن جميع أنواع التشبيهات المكونات الجسمية والعرضية وتوابعهما كالكون في الجهات والأعضاء والجوارح والحلول والمجيء والذهاب وغير ذلك من توابع الجسمية والعرضية، فلا بد من تأويل هذه الظواهر على ما تكون موافقة للحق وإعطاء البلاغة حقها لأن مخالفة العقل غير محتملة، وحمل الكلام على غير ظاهره محتمل، وتأويل المحتمل أحق من تأويل غير المحتمل، فلهذا وجب تأويلها وللعلماء في تأويلها مجريات:
المجرى الأول: الذي ينتجه علماء الكلام من الزيدية والمعتزلة وغيرهم من المنزهة، وهو أنهم يتأولون هذه الظواهر على تأويلات وإن بعدت حذراً من مخالفة العقل، واغتفر بُعْدُها لأجل مخالفة العقل ويُعَضِّدون تأويلاتهم بأمور لغوية فيقولون: المراد باليد النعمة، وأن المراد بالعين العلم لا غير ذلك، وحملهم لها على هذه التأويلات لما لم يأنسوا بشيء من علم البيان ولا ولعوا بشيء من مصطلحاته، فجاءوا بهذه التأويلات الركيكة التي يأنف منها كل محصل ويزدريها نظر أهل البلاغة.(1/243)


المجرى الثاني: الذي عول عليه علماء البلاغة والمحققون من أهل البيان، وهي أنها جارية على نعت التخييل، فهي في الحقيقة دالة على ما وضعت له في الأصل لكن معناها غير متحقق وإنما هو أمر خيالي، فاليد مثلاً دالة على الجارحة، والعين كذلك، لكن تحقق العين واليد في حق الله تعالى غير معقول، ولكنه جارٍ على نهج التخييل كمن يظن شبحاً من بُعدٍ أنه رجل فإذا هو حجر، ومن يتخيل سواداً أنه حيوان فإذا هو شجر إلى غير ذلك من الخيالات.
قلت: وهذا كلام جيد إلا أن التمثيل فيه ما فيه حيث قال: فإذا هو حجر، فإذا هو شجر لأن انكشاف كونه شجراً أو حجراً ينبي عن الغلط الذي لا يعد من الفصاحة في ورد ولا صدر، فالأولى في التمثيل كمن يرى شبحاً من بُعد يعلم أنه ليس بإنسان، لكن لاح عليه شيء من أوصاف الإنسان نحو امتداد قامته وهيئة رأسه، فأطلق عليه اسم الإنسان تخييلاً حيث كان خياله كخيال الإنسان، فقال لمن حوله ممن يعلم أنه ليس بإنسان أنظر إلى ذلك الإنسان، فاستعار تلك الهيئة والخيال وأراد بها معناها الحقيقي ووضعه لذلك الشبح تجوز أو قد يرشحه بقوله متى يأت على أن الله ليس له خيال ولا هيئة فيغلط عليه بخلافها، وإنما المراد من هذا التمثيل إيضاح كيفية التجوز على طريقة أهل البيان والبلاغة.
قال عليه السلام : فما هذه حالة من التأويلات أسهل على الفؤاد وأحرى وأدخل في البلاغة من التأويلات البعيدة التي لا يعضدها عقل ولا يشهدها لصحتها نقل.
قال عليه السلام : ثم أثر عن هذيان الأشعرية أن المراد بهذه الأعضاء صفات أخبر عنها باليد والعين والجنب وسائر الأعضاء فما هذا حاله لا دلالة عليه، قال: وأبعد من هذا تهويس المشبهة من أن المراد بها ظاهرها من الأعضاء والجوارح الخ كلامه عليه السلام .(1/244)


قال عليه السلام فيه في أول مبحث التخييل ما لفظه: اعلم أن هذا النوع من علم البديع من مَرامِي سهام البلاغة المسَدَّدَة وعِقْدٌ من عقود لآلِيه وجُمَانه المبدَّدَة، كثير التداول في كتاب الله تعالى والسنة الشريفة، لما فيه من الدقة والرموز، واستيلائه على إثارة المعادن والكنوز، ومن أجل ذلك ضل من ضل من الجَبْريِّة بسبب آيات الهدى، والضلال وعمل من أجله على الانسلاخ عن الحكمة والانسلال، وزَلَّ من زَلَّ من المشبهة باعتقاد التشبيه، وزال عن اعتقاد التوحيد باعتقاد ظاهر الأعضاء والجوارح في الآي فارتطم في بحر التمويه، فهو أحق علوم البلاغة بالإتقان، وأولاها بالفحص عن لطائفه والإمعان ولو لم يكن في الإحاطة به إلا السلامة عما ذكرناه من زيغ الجُهال، والخلاص عن ورط الزيغ والضلال، لكان ذلك بغية النظَّار والضالَّة التي يطلبها غَاصَةُ البحار، فضلاً عما وراء ذلك من درر مكنونة، وأسرار فيه مودعة مخزونة،ومن ثمة قال الشيخ النحرير محمود بن عمر الزمخشري نور الله حفرته: ولا نرى باباً في علم البيان أدق ولا ألطف من هذا الباب ولا أنفع لي عوناً على تعاطي المتشابهات من كلام الله تعالى وكلام الأنبياء، ولعمري لقد قال حقاً ونطق صدقاً. انتهى كلام الإمام عليه السلام .(1/245)

49 / 311
ع
En
A+
A-