فأجاب عز وجل عن هذا السؤال المقدر بقوله تعالى: ?لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ o وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ? {الحج:53،54}، ونحو ذلك كقصة العجل ونهر طالوت قال تعالى: ?وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَليَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ? {العنكبوت:3}، والفتنة مأخوذة من قولهم: فتنت الذهب إذا ألقيته في النار ليتبين رداءته من جودته، وهذا وجه حسن لا شك فيه.(1/236)


الوجه الثالث: ما أشار إليه الشيخ العلامة الشهيد مفحم الخصم المناوي محمد بن صالح السماوي رحمه الله تعالى في جوابه على أهل مكة، وهو أنه لما كان أُسُّ الشريعة بعد التوحيد أن يأتمر الكل بأمر الله وأن ينتهوا بنهيه، وجب في الحكمة الإلهية أن يوصف لهم الواجب تعالى بما يوجب ذلك أي الائتمار والامتثال، فوصف لهم بأنه الملك الكبير المتعالي لكون من هذا شأنه حقيقاً بأن يطاع أمره ولا يعصى، وإن لم يكن ملكه كملك الخلق الذي هو قسر بعض الناس على الطاعة رغبة ورهبة، ولا الكِبر ضخامة الجسم وسعة امتداده، ولا التعالي رفعه بعد المكان وطول المسافة إليه، ومن هذا القبيل لما أريد أن يثبت الله تعالى من التعالي ما هو أرفع غاياته خوطبوا تارة بأنه في السماء، وتارة بأنه فوقها، وتارة بأنه على العرش الذي هو أرفع منها للتقرير في أذهان العامة بأنه لا ملك بعد هذا ولا أرفع منه ولا طاعة بحق لأحد سواه، ثم قال في الكتاب: ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ?، فلو حواه مكان أو أشير إليه بأين هو ؟ لشارك الأجسام كلها في تمكنه في مكان، وتحيزه في حيز يشار إليه أين هو ؟ فكان مثل كل شيء، تعالى الله عن ذلك، فلم يصدق قوله تعالى: ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ? انتهى.
هذا وجه وجيه وهو مما يزيد الكلام بلاغة وجودة وتلقياً في فكر المخاطب ومآله إلى النوع المسمى في علم البديع بالتخييل والاستعارة التمثيلية، وقد اختاره الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام والزمخشري على غيره من التأويلات التي يذكرها المتكلمون في آيات المتشابه المشعر ظاهرها التشبيه.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الناس اختلفوا في الآيات والأحاديث المتشابهة على ثلاثة أقوال:
الأول: للمجسمة حملها على ظاهرها مع اعتقاد التجسيم الحقيقي، وهذا زيغ شديد وضلال بعيد، وسيأتي حكم قائله في فصل الإكفار إنشاء الله تعالى.(1/237)


الثاني: لبعض الحشوية والمحدثين والمدعين أنهم أهل السنة، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن صاحب العواصم والقواصم تَبْقِيتُها على ظاهرها من دون اعتقاد تجسيم ولا تشبيه، وهذا إن أرادوا به أنها واردة على طريق التخييل والاستعارة التمثيلية، فهو يؤول إلى كلام الإمام يحيى والزمخشري وهو في الحقيقة ضرب من التأويل، فتشنيعهم بعد ذلك على من خاض في تأويل تلك الآيات على غير هذا الوجه بأن جعل اليد كناية عن القدرة ونحو ذلك من أنواع المجاز لا وجه له إذ قد صار اتفاق الجميع أنه تعالى ليس كما يشعر به ظاهر تلك الآيات، إذ لا معنى لقوله تعالى خطاباً لموسى عليه السلام : ?وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي? {طه:39}، إن حملنا حرف الجر على ظاهره وهو الاستعلاء وحملنا مدخوله على العين الجارحة إذ لا شك في بطلان هذا المعنى، وإنما المراد بذلك المبالغة والتأكيد لكونه تعالى عالماً، وإن لم يريدوا به ذلك فهو قول لا معنى له مع القطع بنفي التجسيم لأنه يلحق كلام الحكيم بالهذر وإخراج للفظ وتعطيله عن كلي معنييه الحقيقي والمجازي، اللهم إلا أن يقولوا: إن له معنى لا نعلمه. فلا يرد ما ذكر، فهذا إن كان حمل اللفظ على ظاهره وهو التجسيم أحد الوجوه الداخلة تحت قولهم: له معنى لا نعلمه. فهو باطل لاستلزامه التردد في ثبوت التجسيم ونفيه، وإن لم يكن أحد الوجوه الداخلة تحت ذلك، فلا وجه للتشنيع على المؤَوِّل لجواز مصادفة الوجه المراد منها سيما وقد سبق إلى التأويل جمع من علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم كأمير المؤمنين وسيد المتكلمين أخو رسول الله وباب مدينة علمه، وابن عباس، وابن مسعود، وأُبي بن كعب وغيرهم من علماء الصحابة رضي الله عنهم، وكمجاهد، وقتادة، والسدي، وأبي صالح،والحسن وغيرهم من علماء التابعين رضي الله عنهم، وما أنزل الله القرآن إلا ليتعبد الخلق بتعرف معانيه وتفهم مبانيه وجعله على اللغة العربية الواردة على جميع أنواع البلاغة والمجاز(1/238)


من الاستعارة والتخييل وأنواع العلاقة بين المجاز والحقيقة،?وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ? {العنكبوت:43}.
الثالث: هو التأويل وهو الصحيح لئلا يلزم من عدمه أحد ما ذكرنا في التجسيم، وإلحاق كلام الحكيم بالهذر أو التردد والتشكك فيما قد علم انتفاؤه وتنزيه الله عنه، وقد جعل الله القرآن على ضربين:
محكم: وهو ما لا يحتمل التأويل، ولا مانع من حمله على ظاهره وهذا كقوله تعالى: ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ o اللَّهُ الصَّمَدُ o لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ? {الإخلاص:1،2،3}، ?خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ?، ? بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?، ?عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?، ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ? مأخوذ من حَكَمة اللجام لما كان يمنع من الذهاب إلى غير مراد الراكب.(1/239)


ومتشابه: وهو بخلافه يعني يحتمل التأويل، ومنع مانع من حمله على ظاهره كقوله تعالى: ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ? {المائد:64}، ?وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي?، ?لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ? {ص:75}، ومن ذلك آيات الهدى، والضلال، والمشيئة، والقضاء والقدر وأحاديثها، وأحاديث الشفاعة، والإمامة المشعر ظاهرها دخول الظلمة والفساق،وقد قسم الله تعالى الكتاب العزيز إلى هذين القسمين المحكم والمتشابه، وحكم بالزيغ: وهو الخروج عن الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال على من اتبع المتشابه ورفض المحكم، فلا يمتنع مع ذلك قسمة السنة النبوية على صاحبها وعلى آله أفضل الصلاة والسلام إلى هذين القسمين المحكم والمتشابه، وإن حكم متبع المتشابه منا كحكم متشابه الكتاب قال الله تعالى: ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ? {آل عمران:7}، أي المرجع لمعرفة ما أشكل معناه من غيره ? وأخر متشابهات ?، وهي التي اشتبه المراد منها وقام الدليل القاطع من عقل أو نقل على خلاف ظاهرها، فيجب طلب محمل لها وتأويل يطابق المحكم عند إرجاعها إليه فلا يصير بينهما حينئذ تناقض ولا تعارض، ثم قال تعالى: ? فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ?، فحكم بالزيغ على من اتبع المتشابه، فدل ذلك على أن حمله على ظاهره محرم لا يجوز، وقوله ?ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ?، منصوب على أنه مفعول لأجله وهو يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون الناصب له أنزل، فيكون المعنى أنزل الكتاب على هذين القسمين إرادة منه عز وجل الفتنة - أي المحنة والبلوى - على المكلفين وإرادته منهم تأويله، ويحتمل عدم تقريره والمعنى ابتغاء أن يُؤولوه.(1/240)

48 / 311
ع
En
A+
A-