قال عليه السلام [ ولأجل ذلك ] أي لأجل القول بأنه تعالى ليس بجسم لكون الجسم محدثاً وهو تعالى قديم [ نقول: لا يجوز أن يقال: هو ] تعالى [ طويل، ولا قصير،ولا عريض، ولا عميق، ] لأن هذه الأوصاف خصائص الجسم التي بها كان جسماً، والطويل تارة يقابل القصير فيكون من باب مقابلة النقيض بالنقيض وهما أمران نسبيان لأن الجسم قد يكون طويلاً بالنسبة إلى جسم آخر، وقد يكون قصيراً بالنسبة إلى ثالث، وتارة يقابل بالعريض فلا يكون من مقابلة النقيض بالنقيض لأن كل نقيضين لا يجتمعان في محل، وهما - أي الطول والعرض - مجتمعان في الجسم فيكون من مقابلة اللازم بملزومه كمقابلة الضحك بالسرور ونحو ذلك، فالطول بهذا المعنى امتداد الجسم في إحدى الجهات أقل منه في الجهة الثانية التي هي جهة العرض، فيكون العَرْض امتداد الجسم في إحدى الجهتين أقل منه في الجهة الثانية، والعمق امتداد الجسم علواً و سَفْلاً، وكل ذلك دال على الحدوث، ولزوم مقدر ومدبر جعل الجسم على هذه التقادير ودبره على تلك التدابير، [ و ] كذلك [ لا ] يجوز أن يقال في وصفه تعالى [ شَوِيه ولا مليح، ]، لأن الشواهة سوء المنظر، والملاحة حسنه، فالكل منتف عن الله تعالى لأن ذلك فرع الجسمية [ و لا أن يقال: هو يَسْتَرُّ أو يغتم أو يهتم أو يظن أو يَعْزِم أو يلتذ أو يشتهي أو ينفر أو يُؤْلَم، ]، لأن هذه الصفات كلها من صفات الجسم الحي، ويعبر عنها بصفات الجملة التي يقابل بها صفات الآحاد كالألوان ونحوها.(1/231)
ويستر: من السرور وهو الفرح، قال شيخنا رحمه الله تعالى: ويمكن أن يقال بل الفرح أخص لأنه ورد ذمه والنهي عنه بخلاف السرور بحصول ما يحب، فلم يرد فيه نهي ولا ذم بل رغب الشارع في إدخاله على المؤمن. قال في البحر: والفرح هو السرور الذي تصدر عنه أفعال طرب وقوله تعالى: ?وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ? {الروم:4}، معناه يستر من استعمال المقيد في محل المطلق ووزنه يفتعل برائين أولاهما مكسورة فأدغمت في الأخرى فصار يستر.
ويغتم: من الغم وهو اعتقاد الحي بأن عليه أو على من يحب حصول مضرة أو فوت منفعة، قال القرشي رحمه الله في المنهاج: ويفارق الخوف مفارقة العام للخاص في بعض صوره.
قلت: وهذا غير واضح، والأظهر أن الغم يتعلق بما قد وقع أو سيقع، والخوف يختص بما سيقع في المستقبل.
ويهتم: إن كان بالتاء فهو من الاهتمام وهو التهيؤ للشيء قبل وقوعه ولا يكون إلا فيمن يخشى الفوات، وإن كان من دونها فهو من الهم وهو اشتغال النفس بما سيأتي من مكروه طبعاً.
ويظن: من الظن وهو الاعتقاد الراجح لثبوت شيء أو نفيه مع تجويز المرجوح، وإنما يكون فيمن تعذر عليه العلم، وهو قسم من الاعتقاد عند بعض المتكلمين وهو الصحيح، وقيل: بل هو جنس برأسه وحكاه شيخنا رحمه الله عن المؤيد بالله عليه السلام .
ويعزم: من العزم وهو توطين النفس على فعل شيء مع التصميم على ذلك، فإن لم يصحبه تصميم لم يكن عزماً، قال شيخنا رحمه الله: ويقال: عزم إذا جد في الأمر والمراد هنا الأول.
قلت: ينظر في الفرق بينهما حتى يصح أن يقال المراد هنا الأول إلا أن يقال المراد بالجد في قوله: إذا جد في الأمر، نقيض الهزل استقام.
قال رحمه الله: والعزم والهم والغم ليست بأعراض مستقلة، وإنما هي من قسم الاعتقاد كما أن المحبة والولاية إرادات واقعة على صفات مختلفة، وكالسخط والغضب كراهتان واقعتان كذلك.(1/232)
قلت: لكن في عد الهم والغم من قبيل الاعتقاد تأمل، بل الظاهر أن الاعتقاد يلازمهما لا أنهما من أقسامه كما يظهر من حديهما المذكورين، ويجمع الجميع أن الكل من أفعال القلوب التي يتنزه الله عنها.
ويلتذ: من اللذة، وحقيقتها: المعنى المدرك بمحل الحياة مع الشهوة وضدها الألم، وحقيقة المعنى المدرك بمحل الحياة مع النفرة.
والشهوة والنفرة: جنسان من الأعراض التي لا تدخل تحت مقدور العباد، وقد تصحبهما الإرادة والكراهة كما إذا تعلقت الشهوة بمباح نافع والنفرة بمؤلم غير واجب ولا مندوب، فتصحب الشهوة حينئذ الإرادة والنفرة الكراهة، وقد توجد الشهوة دون الإرادة كاشتهاء الجائع الحرام، وتوجد النفرة دون الكراهة كشرب الأدوية المارة والحجامة ونحوها، والإرادة والكراهة داخلتان تحت مقدور العباد ويوصف بهما الباري تعالى بخلاف اللذة والألم والشهوة والنفرة، فلا يصح عليه تعالى شيء منها ولا غيرها من جميع ما ذكر [ لأن ذلك ] المذكور من جميع ما مر [ كُلَّهُ ] من خصائص الأجسام المحدثات و [ شواهدُ ] على من اتصف بأي شيء منها بحدوثه وثبوت [ الوجود ] له [ بعد العدم، و ] قد ثبت بالأدلة القاطعة أن الله تعالى قديم، فتجويز وصفه تعالى بشيء مما مر ذكره أو ما هو نحوه من سائر صفات الأجسام والجواهر والأعراض [ مُنَافٍ لما هو عليه ] سبحانه وتعالى [ من صفات الكمال والعظمة والجلال. ](1/233)
فصل في معان بعض آيات من المتشابه الذي تعلقت المجسمة بظاهره
ولما فرغ عليه السلام من الكلام على أن الله تعالى لا يشبه الأشياء ولا يجوز عليه تعالى ما يجوز عليها، تكلم في معان بعض آيات من المتشابه الذي تعلقت المجسمة بظاهره.
اعلم أولاً أن الحكمة في إنزال المتشابه ووروده في الكتاب ووروده في السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وعلى آله الكرام من وجوه:
أحدها: الزيادة في البلوى على عباده والمحنة لهم وتعبدهم وتكليفهم بالنظر والفحص لاستخراج الوجه البليغ الأنسب بجلاله وعظيم كبريائه عز وجل، فيزدادوا بمعرفته إيماناً إلى إيمانهم، ويقيناً إلى يقينهم، ويُكتب لهم الثواب الجليل، والأجر الجزيل باستخراج ذلك الوجه، وبالمباحثة والمراجعة بين العلماء رحمهم الله والمناظرة بالإنصاف وقول التي هي أحسن، ويتعبدهم جميعاً بتعبدات العارف بالإيضاح والبيان وإزاحة الإشكال، والجاهل المتمكن من النظر بالاستيضاح وطلب البرهان والتواضع للاسترشاد والسؤال، ويتعبد من لم يتمكن من النظر في المتشابهات بالإيمان الجملي وهو الاعتقاد أنها من عند الله وأنها حق لا باطل فيها وإن لم يعرف معانيها، ولو لم يكن إلا هذا الوجه لإنزال المتشابه لكفى في حسنه ودخوله في دائرة الحكمة الربانية والمصالح الدينية.(1/234)
الوجه الثاني: ما يجعله الله تعالى من الفتنة التي عندها يتبين ثابت الإيمان والمتصف به باطناً وظاهراً ممن هو منه على حرف أوفي ظاهر حاله دون باطنه، فيتميز الخبيث من الطيب عند ورود المتشابه وأمثاله من ضروب الفتنة كفتنة إبليس اللعين، وإماتة من به إقامة الدين كالأنبياء والأئمة الهادين وسائر حجج الله في خلقه أجمعين، وكتمكين إبليس من الإلقاء في أمنية الأنبياء عليهم السلام قال تعالى: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ? {الحج:52}، ولما كان مساق هذه الآية كما ذكر يستلزم سؤالاً وهو أن يقول قائل: ولِمَ مكن الله سبحانه إبليس من ذلك الإلقاء في حال أمنية النبي، والأمنية: هي الكلام المبلغ من النبي إلى الملأ في المحافل والمجامع كالخطبة ونحوها مما يقال على جهة التبليْغ والوعظ برفع الصوت، فيحضر إبليس اللعين نعوذ بالله منه فيتكلم بصوت يشبه صوت ذلك النبي مما يناقض كلامه ويدعو إلى خلافه، فينسخ الله ?مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ? بأن يوحي إلى الرسول أو يسمع الرسول ذلك ?ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ? بأن يبين على لسن ذلك الرسول أن ذلك المناقض هو من إلقاء ذلك الشيطان العدو المبين، فكان هذا محل سؤال واستشكال لأن يقول قائل: ولم مكن الله إبليس من الحضور والكلام المشابه في صوته وهيئته لكلام النبي وما الحكمة ؟(1/235)