ولو صح أن يقال له تعالى: جسم لا كالأجسام، لصح أن يقال له: إنسان لا كالناس، وفرس لا كالأفراس ونحو ذلك، تعالى عما هنالك، [ وإذا لم يكن ] سبحانه وتعالى [ جوهراً ولا جِسماً ولا عَرَضاً لم يوصف ] بشيء من الصفات المتفرعة على ذلك، لأن من المعلوم أنه إذا انتفى الأصل المصحح للوصف انتفى الوصف المتفرع على ثبوت الأصل، ألا ترى أن الوصف بكاتب وشاعر وضاحك وباك من خصائص الإنسان المتفرعة فيه على الإنسانية، فمتى انتفت الإنسانية عن حيوان مشار إليه كالفرس والأسد انتفى ذلك الوصف الذي هو من خصائصه، وكذلك الأكل والشرب ونحوهما والشهوة والنفرة ونحوهما من سائر خصائص الحيوان لا توصف بها الجمادات بنفي ولا إثبات لما كانت ليست من خصائصها، ولما كان التحيز وجواز التجزيء من خصائص الجسم شمل كل جسم من جماد وحيوان وإنسان، وكذلك الحركة والسكون والاجتماع والافتراق كما مر تحقيق ذلك، وحينئذ - أي حين - أن تقرر في العقول أن الله تعالى ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض لم يصح أن يوصف سبحانه وتعالى [ بالكيف، ] وهو ما يعبر به عن جواب السؤال بكيف من الهيئات والتراكيب والانفعالات والحدوثات، لأن ذلك من خصائص الأجسام والجواهر والأعراض [ ولا الأَيْن، ولا الحَيْث، ولا البَيْن، ] فلا يسأل عنه بأين ولا يجاب ولا يخبر عنه بحيث كذا ولا بين كذا، لأن ذلك يستلزم الحلول المتفرع على التجسيم الذي قد تنزه عنه.
قال أمير المؤمنين عليه السلام : من قال: كيف. فقد استوصفه، ومن قال: أين. حَيَّزَه، ومن قال: علام. فقد أخلى عنه، ومن قال: فيم. فقد ضَمَّنه.(1/226)
والأين والحيث والبين كلها سمات المكان، [ ولا ] يجوز أن يوصف بشيء من الجوارح والأعضاء مثل [ الوجه، ] فلا يطلق عليه تعالى بمعنى الجارحة،[ و ]كذلك [ لا ] يجوز عليه تعالى [ الجَنْب، ولا اليدين ] لأن ذلك كله يستلزم الحدوث، فما ورد في القرآن فالمراد به خلاف ذلك كما سيأتي تحقيقه [ لم تقطعه بَعْدٌ ولم تسبقه قَبْلٌ ] لأن قبل وبعد من ظروف الزمان المضافة، فقبل تفيد بصريحها حدوث ما أضيفت إليه، وبعد تفيد انقطاع ما أضيفت إليه، فلا مدخل لهما في القديم الدائم لاستلزامهما خروجه عن القدم ودوام البقاء تعالى الله عن ذلك [ ولم تُجزِّئه بَعضٌ، ولا كُلٌّ جمعه، ] لأن التجزئة بالبعضية ونحوها، وكذلك الجمع بكل ونحوها من توابع الأجسام فلا يصح عليه تعالى شيء من ذلك، ولكونه عز وجل [ ليس ] بجسم ولا عرض ولا جوهر لا يصح أن يقال هو [ في الأرض ولا ] هو [ في السماء، ] لأنهما محدثان كما مر وهو تعالى قبل أن يحدثهما بلا مكان [ ولا حَلَّ في مُتَحَيِّز أصلاً، ] إذ لو فرض أنه في الأرض أو في السماء أو في أي متحيز من عرش أو كرسي أو غير ذلك من الأماكن لقيل: أين كان قبل أن يخلق ذلك الحيز والمكان ؟ فيلزم أحد محالين: إما أن يكون في محل غير ذلك فيلزم الانتقال ويعود السؤال ويتسلسل، وإما أن يكون ذلك المحل قديماً معه تعالى فهو محال لأنه قد ثبت أن الله تعالى خالق كل شيء، ولأن ما جعل أحد القديمين ظرفاً وللآخر مظروفاً بأولى من العكس، فيلزم افتقارهما إلى ثالث جعل هذا ظرفاً وهذا مظروفاً وكل ذلك محال، فلا يصح القول بشيء من ذلك، وما ورد من نحو قوله تعالى: ?الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى? {طه:5}، فليس المراد الكون فيه بل له وجه ومعنى صحيح خلاف ذلك كما سيأتي، ولانتفاء المكان في حقه تعالى ينتفي كل شيء مما يتفرع عليه من التحديد بالجهات الست، [ ولا ] يصح أن يقال [ حَدَّه فَوْقٌ ولا تحت، ولا يمين، ولا شمال، ولا خَلْفٌ، ولا أمام،(1/227)
] لأنه لو حد بإحدى هذه الجهات لزم تناهيه في الجسمية وتحديده وتخصيصه بتلك الجهة وخلوه عما عداها من سائر الجهات فيلزم فاعلاً فعله كذلك، تعالى الله عما هنالك، [ و ] كذلك [ لا يجوز عليه ] تعالى [ المجيء ولا الذَّهاب، ولا الهبوط ولا الصعود. ] لأن ذلك كله متفرع على الجسمية المعلوم حدوثها وهو تعالى قديم، ولأنه قد ثبت أنه تعالى [ كان قبل خَلْق العَالَم ولا مكان، ويكون بعد فناء العالم ولا مكان، ] فيلزم أن يكون حال وجود العالم بلا مكان [ وهو خالق المكان مستغنٍ عن المكان، وخالق الزمان فلم يتقدمه زمان، ] بل هو سبحانه المتقدم على الزمان تقدماً لا ابتداء له.
وقد اختلف في ماهية الزمان وهويته فقيل هو حركة الفلك. وليس بسديد لأن حركة الفلك حدث واقع في الزمان، وقيل: إنه أمر عَدَمِي لا وجود له في الخارج وإنما هو أمر اعتباري بين وجود الموجودات بالنسبة إلى القَبْلِيَّة والبَعْدِيِّة. وليس بسديد أيضاً لأنا نعلم مرور السنين والأعوام وتعددها وانقسامها إلى الفصول والأشهر والأيام والليالي، ومن البعيد أن تكون هذه أقسام لأمر عَدَمِي، والأظهر أن يقال: هو نفس الأحيان والأوقات المتجددة بحدوث الكائنات فيها، وفيه أن الأحيان والأوقات بعض الزمان ومهما لم يُعرَف لم تُعرَف، وفيه أيضاً أي الزمان نفسه إشكال من حيث أن الذوات محصورة بقولهم: الشيء لا يخلو أن يكون موجوداً أو معدوماً، والموجود إما قديم أو محدث، والمحدث إما أن يشغل الحيز عند حدوثه فهو الجسم أو لا يشغله فهو العرض، والمتحيز إما أن ينقسم أو لا، الثاني الجوهر، فينظر في أي الأقسام الثلاثة التي هي: الجسم والجوهر والعرض يدخل بل من المعلوم أنه ليس بأحدها.(1/228)
ويمكن الجواب عن هذا بأن التقسيم ناقص بأن يقال: والذي لا يشغل الحيز عند حدوثه إما أن يستقل بنفسه وهو الزمان، وإما ألا يستقل بنفسه بل يقوم بالجسم وهو العرض، وهذا قوي ولا يمتنع عليه أن يقال: إن الزمان مما استأثر الله بعلمه كالروح وغيره مما أعلم الله الخلق بوجوده وحدوثه ولم يطلعهم على معرفة كنهه، ?وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً? {الإسراء:85}، وحيث أنه عز وجل لا يشبه الأشياء يجب أن يقال: إنه تعالى [ ليس بنور ولا ظلام، ] لأنهما من جملة المحدثات يتضادان على المحل القائمين به وهو الهواء الفاضي بين الجسام الكثيفة قال تعالى: ?وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ? {الأنعام:1}.
واختلف في المرجع لهما هل إلى الأجسام أم إلى الأعراض ؟
قال القاسم والهادي والمتوكل على الله والمهدي والأمير المؤلف عليه السلام وأبي الهذيل من المعتزلة وغيرهم: إنهما من قبيل الأعراض.
وقال بعض أئمتنا عليهم السلام على رواية شيخنا رحمه الله ولم يبينه، وأكثر المعتزلة: هما جسمان.
قال شيخنا: والأول هو الصحيح لأن الجسم الهواء وهما لونان يتعاقبان عليه.
قال الهادي عليه السلام : هما سواد وبياض والشعاع جسم، ومثله حكى في الحقائق عن القاسم عليه السلام .(1/229)
قلت: هذا صحيح، إلا أن قوله: والشعاع جسم. مشكل إذ لم يظهر لشعاع معنى غير أنه من النور، قال: وأما أبو الهذيل فمذهبه: أن الهواء ليس بجسم. فيلزمه إثبات عرض بلا شبح فينظر في ترقيع حرفه،وأما قوله تعالى: ?اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ? {النور:35}، فذكر الأمير عليه السلام في الينابيع أن المعنى الله منور، وحكى عن أمير المؤمنين عليه السلام : هادي أهل السماوات والأرض، وفي الكشاف: صاحب نور على حذف مضاف، [ لأن جميع ما ذكرنا ] من الوصف له تعالى بالكيف وما بعده كله [ ينافي القِدَم. ] الذي قد ثبت وتقرر بالأدلة القاطعة أن الله تعالى متصف به ولا يشاركه غيره فيه. فلو جوزنا وصفه تعالى بشيء مما ذكر لناقضنا القول بقدمه تعالى.(1/230)