وأما النصارى فقالوا: إنه تعالى جوهر اتحد بالمسيح، وذهب قوم إلى: أنه تعالى نور. وبعضهم زعم: أنه هو الهواء المنبث المتسع لجميع العالم.
وهذه الأقوال كلها باطلة عاطلة،[ لأن ] هذه [ الأشياء ] المذكورة وغيرها مما يقوله أهل التجسيم، فإنها كلها [ سواه: ] منحصرة في ثلاثة أقسام لا غير [ جَوْهَرٌ وعرضٌ وجسمٌ ] وإنما أَخر الجسم لطول الكلام عليه، والدليل على انحصار الأشياء سواه في هذه الثلاثة المذكورة هو أن يقال:
الشيء لا يخلو إما أن يكون موجوداً أو معدوماً. والأول: إما أن يكون لوجوده أول أم لا، الثاني: القديم تعالى،والأول إما أن يشغل الحيز عند حدوثه إن حدث أم لا، الثاني: العرض،والأول إما أن يقبل التجزىء والانقسام لذاته أم لا، الأول الجسم،والثاني العرض، فكانت الأشياء بهذا التقسيم سواه تعالى أربعة:
المعدوم على القول بأنه شيء.
والجسم: وهو ما يشغل الحيز ويصح عليه التجزي والانقسام.
والجوهر: وهو مالا يجوز عليه التجزىء والانقسام لحقارته وصغره في ذاته حتى لا يكاد يُدرك.
والعرض: وهو مالا يشغل الحيز عند حدوثه.
فلما انحصرت الأشياء الموجودة سواه سبحانه وتعالى في هذه الثلاثة المذكورة الجسم والجوهر والعرض، أخذ عليه السلام في إبطال أن يكون تعالى من قبيل أحدها، فقال: [ ولا يجوز أن يكون جوهراً، ] وهو الجزء الذي لا يتجزأ لحقارته، وهو في التحقيق راجع إلى الجسم، ولهذا نفاه المتوكل على الله والحسين بن القاسم والإمام وغيرهم، وصححه ابن حابس، وجعلوه من قبيل الأجسام، وأثبته المؤيد بالله والمنصور بالله والأمير وغيرهم، قال شيخنا: ولا طائل في إثباته.(1/221)


[ ولا ] يجوز أن يكون تعالى [ عَرَضاً، ] أيضاً،[ لأنهما ] - أي الجوهر والعرض - [ غير حيين ولا قادرين، ] أما العرض فلأنه من جملة المعاني المحدثة، فلو كان حياً قادراً لكان له قدرة وحياة وهما معنيان من جملة المعاني، فكان يلزم أن يحل المعنى في المعنى ويقوم به وهو محال.
فإن قيل: هذا مسلم لو كانت القدرة والحياة ثابتة لهما لمعنى وهو يمكن أن تكونا ذاتية لهما كما قلتم في الباري تعالى.
قلنا: الصفة الذاتية للعرض هي كونه هيئة للمحل لا غير، والصفة الذاتية للجوهر كونه يشغل الحيز مع عدم التجزىء والانقسام لا غير، وأيضاً فإنا نعلم أنهما ليسا بقادرين ولا حيين ضرورة [ وهو تعالى قادر حي، ] كما تقدم، [ ولأنهما ] أيضاً [ مُحْدَثان ] كما تقدم [ وهو تعالى قديم، ] كما تقدم أيضاً تقرير ذلك.
فثبت بجميع ذلك أنه لا يجوز أن يكون تعالى جوهراً ولا عرضاً، [ و ] أما أنه [ لا يجوز أن يكون ] سبحانه وتعالى [ جسماً، ] فـ [ لأنا قد بينا ] فيما مر في مسألة إثبات الصانع [ أنه ] تعالى [ خالق الأجسام، ] كلها، فلو كان تعالى جسماً لما كان تعالى خالق الأجسام [ و ] لا قادراً على خلقها، [ لأن الشيء لا ] يقدر أن [ يخلق مِثْلَه ] وإلا لأمكن من سائر الأجسام أن تخلق أجساماً مثلها.
فإن قيل: إنما تعذر على الأجسام أن تخلق أجساماً مثلها لأنها لا تكون قادرة بذاتها ولو خلق الله تعالى لها قدرة على ذلك لأمكن.(1/222)


قلنا: وكذلك لو كان تعالى جسماً لما كان قادراً بذاته بل لا يكون حينئذ قادراً إلا بقدرة يفعلها له غيره، لأن من حق كل مثلين أن يشتركا في وجوب ما يجب وجواز ما يجوز واستحالة ما يستحيل مما يكون وجوبه وجوازه واستحالته راجعاً إلى ذاته، ألا ترى أن الجسمين لما اشتركا في نفس الجسمية اشتركا في كل ما يجب للجسم من شغل الحيز والاحتياج إلى المحدث وملازمة الأكوان الحركة والسكون ونحوهما، وجواز ما يجوز من التجزى والانقسام وحلول الحياة والقدرة والعلم ونحوها، واستحالة ما يستحيل كالكون في جهتين في وقت واحد وإيجاد نفسه أو مثله لما كانت راجعة هذه الأمور إلى ذات الجسم، ولهذا لا يشاركها العرض فيما يجب ويجوز، وإن شاركها فيما يستحيل فهو غير قادح فيما نحن بصدده لأنها قد جمعتهما صفة الحدوث الذي تفرع ذلك عليها، فلو كان الباري تعالى جسماً لوجب له كما يجب للجسم من الحيز والافتقار إلى المحدِث وحلول الأعراض اللازمة كالأكوان، وجاز عليه ما يجوز على الجسم كالتجزىء والانقسام وحلول القدرة والحياة ونحوهما من سائر الأعراض والمعاني الغير اللازمة للجسم بل جائزة فقط، واستحالة ما يستحيل كإيجاد نفسه أو جسماً مثله، فعرفت أنه لو كان جسماً لما كان قادراً وعالماً وحياً بذاته، لأن هذه الأوصاف مما يجوز على الجسم لا مما يجب له وإلا لكان كل جسم كذلك وهو معلوم البطلان، وقد أشار عليه السلام إلى معنى هذا كله بقوله [ ولأن الجسم مؤلَّف ] من الأجزاء الصغار المعبر عنها بالجوهر الفرد، وهو الجوهر الذي لا يتجزأ، فمتى ضُمَّ إليه جوهر مثله صار خَطّاً، ومتى ضُمَّ إليهما جوهران مثلهما في جهة العرض صارت الأربعة سطحية ممكنة التجزيء في جهتي الطول والعرض دون جهة العمق، ومتى ضم إلى تلك الأربعة أربعة فوقها أو تحتها صار مجموع الكل جسماً ممكن التجزىء في الثلاث الجهات الطول والعرض والعمق، وهذا معلوم عقلاً ضرورة لكل جسم.(1/223)


لا يقال: إن القول به متفرع على القول بالجوهر الفرد وكثير من المتكلمين غير قائل به، فكيف تقولون أنه معلوم ضرورة لكل جسم ؟
لأنا نقول: إنما خالف من خالف من المتكلمين في تسمية ذلك الجزء جوهراً لا في ثباته أي ثبوت ذلك الجزء نفسه في الخارج وانقسام الجسم إلى تلك التقسيمات وتركبه من تلك الأجزاء فلا قائل بخلافه، فبطل أن يكون الله تعالى جسماً لأنه مؤلف [ مصنوع، ] كذلك ويصح عليه أن [ يفترق ] في نفسه أو عن غيره [ ويجتمع، ] بعد افتراقه، ويفترق بعد اجتماعه [ ويسكن ] بعد تحركه [ ويتحرك، ] بعد سكونه، وهذه الأكوان الأربعة التي لا يخلو كل جسم عن اثنين منها واحد من الافتراق والاجتماع وواحد من الحركة والسكون، فلو كان تعالى جسماً لكان محلاً لهذه الأكوان الأربعة وهي التي دلتنا على حدوث العالم لما علمنا أنها أعراض محدثة كما مر تحقيق ذلك في مسألة إثبات الصانع، فلو كان تعالى جسماً لشمله دليل حدوث العالم فيلزم حدوثه لأن ما لازم المحدَث ولم يخلو منه فهو محدَث مثله، وقد مر أن الله تعالى قديم فلا يصح القول بذلك، [ و ] لأن الجسم [ يكون في ] أحد الجهات الست التي هي الأمام والخلف والفوق والتحت واليمين والشمال، ولا اختصاص له بجهة دون جهة إلا بالفاعل عند أول وجوده، ثم إن كان حياً كان تنقله من جهة إلى جهة بالفاعل أيضاً إما نفسه أو غيره فحلوله في إحدى [ الجهات، ] متفرع على حدوثه كما عرفت، [ و ] كذلك من شأن الجسم أن [ تسبقه الأوقات، ] فيكون معدوماً في الزمن الأول ثم يصير موجوداً فيما بعده ويكون معدوماً بعد أن كان موجوداً [ وكل ذلك شواهدُ على الحُدُوثِ، وقد ثبت أن الله تعالى قديم، فلا يجوز أن يكون مُحدَثاً بل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ].(1/224)


فثبت أن الله تعالى لا يجوز أن يكون جسماً ولا عرضاً ولا جوهراً، وبطل جميع ما قاله المخالفون القائلون: بأنه تعالى جسم، والقائلون: بأنه تعالى نور، لأن ذلك من قبيل الأعراض، والقائلون: بأنه تعالى جوهر، لأنه إن أُريد بالجوهر المصطلح عليه بين المتكلمين فمعلوم البطلان، وإن أريد به ما يقوله الفلاسفة والنصارى فإنهم وإن أرادوا به الموجود بنفسه لا في متحيز فلفظ الجوهر إنما يسبق منه إلى الفهم ما له جرم، والجوهر في أصل اللغة: أصل الشيء وسنخه الذي أُخذ منه، ولهذا يقال: جوهر هذا الشيء جيد وجوهر هذا الشيء رديء - أي أصله الذي أُخذ منه - وهذا المعنى منتفي في حق الله سبحانه وتعالى، فليس له جنس ولا أصل ولا فصل بل لا يعلم كُنْهه إلا هو، وأما قول الكرامية: إنه تعالى جسم لا كالأجسام - أي ليس له طول وعرض وعمق - فهو مناقضة ظاهرة لأن الجسم هو الطويل العريض العميق متى ارتفعت هذه الأوصاف ارتفعت ماهية الجسم بأصلها، فلا يصح بعد ذلك أن يقال جسم، وإن قيل: لا كالأجسام. فهو كلام مختل يدل على أن الجسم في اللغة: إنما يطلق على الطويل العريض العميق قول الشاعر:
وأجسم من عادٍ جسومُ رِجَالِهِم .... وأكثر إن عُدّوا عديداً من التُّرْبِ(1/225)

45 / 311
ع
En
A+
A-