فإن قيل: إنا إذا علمنا شيئاً من المدركات بخبر متواتر أو بوجود أثره كأثر قدمي الماشي على الطين الرطب ونحو ذلك، ثم إذا وجدنا ذلك المخبر عنه أو الأثر حصل لنا زيادة على العلم الحاصل أولاً، وليس إلا صفة الإدراك.
قلنا: لم ننكركم ذلك في الشاهد، ولكن أين الجامع بينه وبين الغائب ؟ فإنه ليس لله تعالى من حاسة تتعلق بالمأثر أأوجودات فتكسب لذلك الإدراك الزائد على علمه تعالى بها في حال عدمها، بل علمه تعالى بالموجودات لا يزيد على علمه بالمعدومات، فثبت بما ذكرنا أن الله تعالى سميع بصير وسامع مبصر ومدرك، وأنها كلها في حقه تعالى بمعنى عالم بالمسموعات والمبصرات وسائر المدركات، وبقي الكلام فيما يتعلق بهذه المسألة من الفروع والأبحاث.(1/216)


إن الله تعالى يعلم جميع المعلومات
الأول: أن ما ثبت لما مر من الصفات المذكورة موجود وقادر وعالم وحي يثبت لهذه الصفة من أنها ثابتة لذاته تعالى لا لأمر زائد على ذاته، وكلٌّ على أصله، إلا أن القرشي في المنهاج ذكر أنه حكى عن أبي هاشم: أنه يثبت لكونه سميعاً بصيراً حالة زائدة على كونه تعالى حياً لا آفة به ثبوتاً وانتفاء، ولو كانا غيرين لصح انفصال أحدهما عن الآخر إلى آخر ما ذكره هناك. وهذا معنى آخر لا ينافي أنه يجعل سميعاً بصيراً صفة زائدة على الذات كما قاله في سائر الصفات، وكذلك يثبت لهذه المذكورة في هذه المسألة ما ثبت لما مر من أنه تعالى سميعاً بصيراً فيما لم يزل وفيما لا يزال ولا يجوز خروجه عن ذلك بحال من الأحوال،وكذلك سامع مبصر مدرك خلافاً لمن فرق بينها وبين سميع بصير، فلا يثبت له ذلك فيما لم يزل حقيقة، بل عند وجود المدرك كما مر من حكاية مذهبهم، وينظر ما يقوله فيها فيما لا يزال إذا علم المدرك هل تبقى صفة مدرك وسامع مبصر أم تنقضي بانقضاء وجود المدرك، لم أجد لهم نصاً في ذلك ولا حكى عنهم أحد ذلك، ولعله بنى على القواعد من أن تخلف الشرط يلزم معه تخلف المشروط أن لا يثبتوا له ذلك فيما لا يزال إلا مع استمرار وجود المدرك كالأجسام والأعراض الباقية في الآخرة، والله أعلم.(1/217)


الثاني: حكي عن أبي القاسم بن شهلويه أنه قال: إنه تعالى يدرك جميع المدركات ما خلى الألم واللذة، وهذا إن أريد به أن الإدراك بمعنى العلم فقط، فغير مسلم له لأنهما من جملة المعلومات، وإن أريد به أن الإدراك هو المعنى الزائد على العلم الذي أثبته البصرية ومن وافقهم عليه شاهداً وغائباً، فأراد استثناءه في حقه تعالى بالنظر إلى اللذة والألم فما ذكره صحيح فيهما لاستحالة اللذة والألم في حقه تعالى، ولكن ليس ذلك خاصاً باللذة والألم بل وسائر المدركات إنما يعلمها وإدراكها بمعنى العلم بها لا غيره إلا أنه ربما يقال مراده أنه يصح إطلاق لفظ مدرك عليه تعالى في سائر المدركات بمعنى العلم أو بمعنى الأمر الزائد على العلم، فيصح أن يقال يدرك الروائح ويدرك الطعوم ونحوها إلا الألم واللذة، فلا يصح أن يقال يدركهما لإيهامه الخطأ، بل يقال: يعلمها فذلك صحيح.
قلت: وكذلك الحرارة والبرودة إذ لا فرق.
الثالث: المدركات ثمانية: الأصوات، والأجسام، والألوان،والروائح،والطعوم، والحرارة، والبرودة، واللذة، والألم، فالثلاثة الأُول يعبر عنها بسميع بصير وسامع مبصر ومدرك وعالم، والرابع والخامس يعبر عنهما بمدرك وعالم، والأربعة الأخيرة لا يصح فيها غير عالم على الصحيح، وإن أطلقوا العبارة أنه يعبر عن سائر المدركات بمدرك، فلا يسلم في الأربعة الأخيرة بما فيه من إيهام الخطأ، فالجسم يدرك بحاستين البصر واللمس، واللون يدرك بحاسة البصر فقط، والصوت بحاسة السمع فقط، والروائح بحاسة الشم فقط، والطعوم بحاسة الذوق فقط، والحرارة والبرودة إن كانا في غير جسم المدرك فبحاسة اللمس، وإن كانا في جسم المدرك فبالوجدان من النفس كالألم واللذة وما يعود إليهما كالجوع والعطش والشبع والري، وبهذا التفصيل تعلم أن الإدراك في حقه تعالى ليس إلا بمعنى العلم في جميعها كسائر المعلومات.(1/218)


الرابع: فيما يجري عليه تعالى من الأسماء بمعنى سميع بصير ومالا يجوز، فالذي يجوز سامع مبصر مدرك كما قدمنا، ويجوز إطلاقها عليه تعالى في الأزل لأنها في حقه تعالى بمعنى عالم كما تقرر، وقال القرشي: لا يجوز إطلاقها عليه تعالى في الأزل وظاهره منع ذلك لا حقيقة ولا مجازاً، و عن بعضهم يجوز مجازاً.
قلت: ولعل شبهة من منعها إيهام الخطأ على أصله أن ثمة في الأزل مسموعاً ومُبْصَراً ومُدْرَكاً، وهو تفريع على أصل غير مسلم وعالم بالمسموع وعالم بالمبصر وعالم بسائر المدركات، فالكل عند بعض أئمتنا بمعنى سميع بصير مدرك كما تقدم، وحي لا آفة به عند البعض كما تقدم أيضاً، ورائي بمعنى عالم بالمرئي ويدل عليه قوله تعالى: ?الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ? {الشعراء:218}، ?إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى? {طه:46}، وشاهد بمعنى يعلم المشاهدات المبصرات ويمتنع عليه مشاهد لإيهامه المسامتة والمقابلة هكذا قاله القرشي، والأكثر أنه مع هجر ذلك وعدم خطوره بالبال وإيهامه السامع، وأريد به التعبير عن علمه تعالى بالمشاهدَات فلا مانع منه والله أعلم، ومستمع لأنه لمن أفرغ حاسة السمع طلباً لسماع المسموع سمعه أم لا، وناظر لأنه لمن قَلب حدقته السليمة في جهة المرئي طلباً لرؤيته.
ولما فرغ عليه السلام من صفات الإثبات وهي ما يجب اعتقاد ثبوته لله تعالى في التوحيد أخذ في بيان ما يجب نفيه عن الله تعالى من الصفات المنافية للتوحيد، بدأ منها بمسألة نفي التشبيه ليفرع ما بعدها عليها فقال عليه السلام :(1/219)


فصل في الكلام في أن الله تعالى لا يشبه الأشياء
ولا يجوز عليه ما جاز عليها من الزيادة والنقصان والعدم والبطلان.
اعلم أولاً أن بين المشابهة والمماثلة عموم وخصوص.
فالمشابهة: اتفاق الذاتين في صفة من صفات الذات مع الاتفاق في الوجه الذي اشتركا فيها لأجله.
والمماثلة: الاتفاق في كل الصفات.
لذلك قلنا: مع الاتفاق في الوجه الذي اشتركا فيها لأجله، للاحتراز عن نحو قادر وعالم وحي وغيرها مما يتصف به الباري تعالى ويتصف به المخلوق، فإن ذلك لا يوجب المشابهة لأنها تثبت للباري تعالى لذاته كما مر، وفي المخلوق لأجل المعنى القائم به كالقدرة والعالم والحياة، قلنا: في أول الحد في صفة من صفات الذات، للاحتراز عن صفات الفعل فلا مشابهة بها، فالمشابهة أعم لأنها تكون بصفة من صفات الذات أو بكل صفات الذات، والمماثلة أخص لأنها لا تكون إلا بكل صفات الذات، فمن ثمة يقال في المثلين: هما كل معلومين يسد أحدهما مسد الآخر، ولا يقال في المتشابهين كذلك، ففي قوله تعالى: ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ? {الشورى:11}، نفي الأمرين معاً المشابهة والمماثلة، ولعل أن ذلك هو السر في الجمع بين الكاف ولفظة المثل لينتفي الجميع، والله أعلم.
قال عليه السلام : [ فإن قيل: ] لك أيها الطالب الرشاد [ أربك يشبه الأشياء ؟ فقل: ربي لا يشبه الأشياء، ] فليس بجسم ولا عرض ولا جوهر، وهذا مذهب جميع العترة الطاهرة ومن وافقهم من الزيدية والإمامية والمعتزلة والأشعرية والخوارج وكثير من الفرق الداخلة في الإسلام والخارجة عنه، والخلاف في ذلك مع المجسمة الحشوية والكرامية والنصارى.
أما الحشوية فقالوا: إنه تعالى جسم كسائر الأجسام له أعضاء وجوارح. تعالى الله عن ذلك.
وأما الكرامية: فمنهم من يقول: إنه جسم لا كالأجسام - أي ليس بطويل ولا عريض ولا عميق - فخلافهم في اللفظ دون المعنى.(1/220)

44 / 311
ع
En
A+
A-