فصل في الكلام في أن الله سميع بصير
وفي معناه سامع مبصر مدرك في حقه تعالى، وإنما أخرت هذه المسألة لأنها ليست مسألة مستقلة على حِدَتها بل راجعة إلى ما تقدم، أما على قول جمهور أئمتنا عليهم السلام والبغدادية فهي راجعة إلى: عالم، وأما على قول بعض أئمتنا عليهم السلام والبصرية فهي راجعة إلى: حي، وهو اختيار المؤلف عليه السلام .
حقيقة السميع في اللغة: هو من يدرك المسموع بمعنى محله الصِّمَاخ.
وحقيقة البصير: هو من يدرك المبصر، بمعنى محله الحَدَق.
ولما كان هذان المعنيان في حق الله تعالى محالاً لا يجوز عليه تعالى وورد السمع بأنه تعالى سميع بصير، وكان من لازم من أدرك شيئاً علم به.
قال جمهور أئمتنا عليهم السلام والبغدادية: إنهما في حق الله تعالى بمعنى عالم بالمسموع وعالم بالمبصر، ولا فرق بينهما وبين سامع مبصر مدرك لسائر المدركات كالمشموم والمطعوم والملموس، عبر الله تعالى عن علمه بالأشخاص والهيئات وما شاكلها مما يدركه المخلوق بحاسة السمع بكلمة سميع.
قال شيخنا رحمه الله تعالى: على سبيل التوسع والمجاز.(1/211)


قلت: ولا يبعد أنهما صارا حقيقة دينية بالنقل عن معناهما اللغوي إلى لازمه وصارا فيه حقيقة كما قال بعض أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم في رحمن ورحيم: إذ لو كانا مجازاً لاحتاجا إلى قرينة، وقال بعض أئمتنا عليهم السلام: بل هما بمعنى حي لا آفة به، ولعلهم يريدون أصلهما في اللغة كذلك ولا مانع فإن ظاهر قوله تعالى: ?إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا? {الإنسان:2}، يشهد لذلك أي حياً لا آفة به تمنعه عن إدراك المسموع والمبصر عند إعمال حاسة السمع وحاسة البصر في المسموع والمبصر، ولا يمكن حمل الآية على عالم بهما لأنه قد يعلم المبصر من لا يشاهده كالأعمى والغائب عنه بواسطة الخبر من اختار أنهما بمعنى عالم ذلك إلا في حق الباري تعالى دون الشاهد، فجعلوهما حقيقة لمن يدرك المسموع بمعنى محله الصِّمَاخ، ومن يدرك المبصر بمعنى محلة الحَدَق.
إذا عرفت ذلك معنى السميع البصير، فلا خلاف بين كل من أقر بالصانع المختار أن الله تعالى سميع بصير، والخلاف في ذلك يحكى عن الباطنية كما مر لهم في غيرها من الصفات: أنه تعالى لا يوصف بنفي ولا إثبات. وننظر في إلزام المطرفية ذلك، فإن جعلناهما بمعنى حي لا آفة به، فيحتمل عدم الإلزام من حيث أنهم لا يخالفون في ذلك، ويحتمل الإلزام من حيث أنهم ألزموا في حي أن لا يكون حياً، كذلك يأتي هذان الاحتمالان إن جعلناهما بمعنى عالم، فتأمل.
قال عليه السلام : [ فإن قيل: ] لك أيها الطالب الرشاد [ أربك سميع بصير ؟ فقل: أَجَل ] - أي نعم - هو سميع بصير.
والدليل على ذلك أما على مذهب أهل القول الأول فلا إشكال، لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات ومن جملتها المسموعات والمبصرات وسائر المدركات، فيجب أن يكون سميعاً بصيراً مدركاً لجميع المدركات، وهذا الدليل مبني على أصلين:(1/212)


أحدهما: أنه تعالى عالم بجميع المعلومات. والثاني: أن من جملتها المسموعات والمبصرات وسائر المدركات.
أما الأصل الأول: فقد تقدم تقريره في مسألة عالم حيث قلنا: إنه تعالى لا يختص بمعلوم دون معلوم.
وأما الأصل الثاني: وهو أن المسموعات والمبصرات وهي من جملة المعلومات فلا نزاع فيه إذ هو معلوم بالضرورة، فثبت القول: بأنه تعالى سميع بصير وفي معناهما سامع مبصر لا فرق، وثبت القول بأنه تعالى مدرك لسائر المدركات لأنها من جملة المعلومات.
وأما على مذهب أهل القول الثاني، فقد أشار إليه عليه السلام بقوله: [ لأنه ] تعالى [ حَيٌّ كما تقدم، ولا ] يجوز أن [ يعتريه شيء من الآفات، ] المانعات من إدراك المسموعات والمبصرات وسائر المدركات، وهذا الدليل مبني على أصلين أيضاً:
أحدهما: أنه تعالى حي. والثاني: أنه تعالى لا يجوز عليه شيء من الآفات.
أما الأصل الأول: وهو أنه تعالى حي، فقد تقدم في مسألة حي ولا كلام فيه هنا.(1/213)


وأما الأصل الثاني: فظاهر [ لأن الآفات ] هي فساد الآلات التي يكون بها إدراك المسموع والمبصر ونحوهما كالمشموم والمطعوم والملموس، وهذه المعاني [ لا تَجُوزُ إلاًّ على الأجسام، والله تعالى ليس بجسم ] كما سيأتي و[ لأن الأجسام ] كلها [ مُحْدَثَةٌ كما تقدم، ] في مسألة إثبات الصانع [ والله تعالى قديم كما تقدم أيضاً. ] في مسألة قديم، فثبت بذلك أن الله تعالى سميع بصير، وهذا الدليل مبني على أن إدراك المدركات مقتضى عن الحَيِّيَّة بشرط وجود المدرك وسلامة الآلات وارتفاع الموانع المانعة عن إدراكه كالحجاب الكثيف ووجود الضياء المناسب للعين في حق المرئي، وحيث أن ما عدا الأول مستحيل في حق الله تعالى لا معنى لاشتراطها في كونه تعالى مدرِكاً فاشْتُرط عند أهل هذا القول الأول فقط وهو وجود المدرَك وجعلوا ذلك شرطاً في سامع مبصر مدرِك لا في سميع بصير فالمشترط فيهما صحة أن يدرِك المسموع والمبصَر عند أن يوجد، وهذه الصحة مقتضاة عن كونه تعالى حياً مع استحالة الآفة عليه تعالى، فمن ثمة جعلوا سميعاً بصيراً يوصف بهما الباري تعالى في الأزل دون سامع مبصر مدرك فليس إلا بعد حصول ذلك الشرط وهو وجود المدرَك، هذا قول جمهور المتأخرين ولا يُسلم.
أما أولاً: فلأن الإدراك لو كان مقتضى عن الحَيِّيَّة للزم أن الإنسان يدرك المدركات كلها بجميع أعضائه لأنها حية لا آفة بها فكان يدرك المسموع والمبصر باليدين ونحوهما، فدل على أن الإدراك ليس مقتضى عن الحيية بل عن استعمال الحاسة المخصوصة بالمدرك فيه مع سلامتها وعدم الموانع ووجود الضياء المناسب للعين في حق المرئي ونحو ذلك.(1/214)


وأما ثانياً: فلأن الإدراك لو كان مقتضى عن الحيية مع وجود المدرك للزم أن ندرك المدركات الكثيرة الحاصلة دفعه لوجود الحياة ووجود المدرك وسلامة الحاسة، والمعلوم خلاف ذلك فإن الإنسان لا يقدر غالباً أن يدرك الصوتين أو اللونين في محلين إلا على جهة التعاقب، فكيف بإدراك الأصوات الكثيرة ولو كانت في الحضرة ما ذاك إلا أن الإدراك ليس مقتضى عن الحيية، بل عن استعمال الحاسة في المدرك لما كانت الحاسة كالآلة لا يمكن استعمالها إلا فيما هي آلة فيه في الغالب في أكثر من واحد، إلا على جهة التعاقب.
وأما ثالثاً: فلأنهم جعلوا الإدراك في الشاهد مقتضى عن الحيية ولم يجعلوها كافية في اقتضائه، بل شرطوا معها وجود الحاسة في محل الإدراك وهو وجود البصر مثلاً في الحدق،وشرطوا أيضاً سلامته، وإذا كان هذا الاقتضاء شاهداً إنما حصل مع وجود الحاسة وسلامتها من الآفة بحيث لولا وجود الحاسة وسلامتها لما حصل، فلئن ينتفي الإدراك مع استحالة الحاسة من باب الأولى فيلزمهم أن الله تعالى ليس بمدرك، هذا ما أورده عليهم الشيخ محمود الملاحمي وهذا ظاهر، ولا ينقلب علينا. هذا ويقال: فأنتم جعلتم الإدراك مقتضى عن استعمال الحاسة في المدرك وذلك مستحيل في حق الله تعالى فينتفي حصول الإدراك في حقه تعالى من باب الأولى، لأنا نقول: لم نجعل الإدراك في حقه تعالى زائداً على العلم بالمدركات ولا جعلناه مشروطاً بوجودها، ولا قلنا في السميع والبصير هما بمعنى حي لا آفة به فنوهم بنفي الآفة وجود الآلة مع سلامتها عن الآفة، ولا قلنا في السامع والمبصر والمدرك هي بمعنى حي لا آفة به عند وجود المسموع والمبصر وسائر المدركات، فنزيد في إيهام وجود الحاسة إيهام استعمالها في المدرك، لأنا لما قلنا: إن الجميع في حقه تعالى بمعنى عالم ويوصف بالجميع في الأزل لم يرد علينا شيء من ذلك.(1/215)

43 / 311
ع
En
A+
A-