وانعقد الإجماع أيضاً: أن الله تعالى لا إله إلا هو وحده لا شريك له في الإلهية، وهذه المعاني إن كانت قديمة كانت واجبة الوجود لذاتها فتكون آلِهةً، لأنها قد شاركته تعالى في الوصف الذي لأجله فارق به جميع المخلوقات وهو أنه قديم واجب الوجود لذاته وهو أخص أوصافه تعالى، فإذا فرض شيء شاركه فيه وجب أن يشاركه في سائر أو صافه تعالى من كونه قادراً على كل المقدورات عالماً بكل المعلومات حياً دائماً لم يزل ولا يزول، لأنه إنما ثبت له تعالى ذلك لكونه قديماً، والاشتراك في القدم الذي هو أخص أو صافه يوجب الاشتراك في سائر صفات الذات، ألا ترى أن أخص أوصاف الإنسان كونه ناطقاً فكلما شاركه في كونه ناطقاً شاركه في كونه إنساناً وحيواناً ويقدر ويعلم ويأكل ويشرب، وكذلك الفرس أخص أوصافه كونه صاهلاً فكلما شاركه في كونه صاهلاً شاركه في كونه فرساً يمشي على أربع ويصلح للركوب لمطاردة العدو ويأكل ويشرب ونحو ذلك من أوصافه، فلو فرضنا شيئاً مشاركاً لله تعالى في القدم الذي هو أخص أوصافه تعالى لوجب أن يشاركه تعالى في سائر صفات ذاته التي تثبت له تعالى لأجل قدمه من كونه قادراً على كل شيء وعالماً بكل شيء وحياً دائماً لم يزل ولا يزول، فتكون تلك المعاني حينئذ آلهة مع الله، تعالى الله عن ذلك.(1/206)
وبعد فما جَعْل أحد القدماء موصوفاً والبقية صفاتاً بأولى من جَعْل أحد الآخران كذلك، ولا جعل أحدهما قدرة والآخر علماً ونحو ذلك بأولى من العكس، ولا جعل تلك المعاني قائمة به تعالى بأولى من العكس، و لا من أن يقوم بعضها ببعض فلا بد من تقدير فاعل فعل هذا قائماً بهذا دون العكس ودون أن يقوم بغيره فيخرج الكل عن القدم، ويفتقر الجميع إلى فاعل تاسع قادر عالم حي الخ، ويقال فيه ما قيل فيما قبله ويتسلسل أو يكون قادراً عالماً حياً لذاته فيجب الاقتصار عليه من أول وهلة، وقد قلت أبياتاً من قصيدة بعد كلام فيها في العدل راداً على الأشاعرة في معنى هذه الجملة وهي:
فهذا العدل والتوحيد فيه .... عجيب من عجائب ذى المُشَاققْ
فقد جعلوا قديمات معان .... مع الله وما عنه تُفارقْ
وعدوها صفات الله سبعاً .... وثامنها هو الله المُوافقْ
فما الرحمن حينئذ بواحد .... ولا عنها غني ولا مُفارقْ
فمن رَكَّب وأَلَّف بين هذا .... إلى هذا ويجعله مُناسقْ
أليس الله خالق كل شيء .... وعنه غني سابق لا مُوافقْ
أليسوا أحوجوه إلى المعاني .... فما توحيدهم لفظاً مُطابقْ(1/207)
الزامات على أهل المعاني
ويقال لهم: ما تقولون فيمن وجه عبادته إلى كل قديم أيكفر أم لا ؟
إن قلتم: بالأول. قلنا: ما وجهه وهو لم يعبد غير الله تعالى حيث قلتم: إن هذه المعاني ليست غيره ولا هي هو ؟
وإن قلتم: بالثاني. قلنا: فلم لا يكفر من عبد ثمانية، أليس قد انعقد الإجماع على كفر من عبد اثنين فكيف بمن عبد ثمانية ؟ ويقال: هل تستحق هذه المعاني ما يستحقه الله تعالى من المدح والثناء والتعظيم والعبادة أم لا ؟
إن قلتم: بالأول. قيل: فلم أمطلتموها ما تستحقه عليكم سيما وقد قلتم: لولا هي لما كان الله تعالى قادراً عالماً ونحوهما، ولما تمكن من خلقكم ورزقكم ؟
وإن قلتم: بالثاني. قيل: فقد انعقد الإجماع على أن من عظم شيئاً كتعظيم الله تعالى فهو كافر، ويقال إذا كانت المعاني هذه قديمة مع الله تعالى والكل ليس بجسم ولا عرض، فبم يمتاز بعضها عن بعض ؟
إن قلتم: بالأسماء الموضوعة لها. قلنا: هي ألقاب طارئة متوقفة على وضع واضع اللغة ويصح تغيرها وتبديلها.
وإن قلتم: بالجهات والأماكن. قلنا: ذلك من خواص الأجسام. وإن قلتم: بالهيئات ونحوها. قلنا: ذلك من قبيل الأعراض. وإن قلتم: لا يتمايز بعضها عن بعض. قلنا: فقد صارت كلها بمنزلة واحد منها فيجب الاقتصار عليه ويجب نفي ما عداه، وهو الذي نريد وبالله التوفيق.(1/208)
وقد رأيت أن أختم هذا الفصل بشيء من كلام الوصي إمام العارفين وسيد المتكلمين، أخو رسول الله وشبيه أنبياء الله، باب مدينة العلم، وأسبق أهل هذا السلم، ليستأنس به طالب الحق في هذه المسألة وإلا فالتقليد فيها لا يجوز كما في غيرها من أصول الدين قال عليه السلام : أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكما توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزاه، ومن جزاه فقد جهله، ومن أشار إليه فقد حَدَّه، ومن حده فقد عَدَّه، ومن قال فِيْمَ فقد ضَمَّنَه، ومن قال عَلاَمَ فقد أخلى منه، كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة، وغير لكل شيء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات والآلات، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه، وفي نسخة: إذ لا منطو عنه، متوحد إذ لا سكن يستأنس به ولا يتوحش بفقده الخ، أخرجه الشريف الرضي رحمه الله تعالى.
وقال عليه السلام : الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالاً، فيكون أولاً قبل أن يكون آخراً، ويكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً، كل مسمى بالوحدة غيره دليل، وكل عزيز غيره ذليل، وكل قوي غيره ضعيف، وكل مالك غيره مملوك، وكل عالم غيره متعلم، وكل قادر غيره مقدور عليه يقدر ويعجز، وكل سميع غيره يصم من لطيف الأصوات، ويصمه كبيرها ويذهب عنه ما بعد منها، وكل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان ولطيف الأجسام، وكل ظاهر غيره غير باطن، وكل باطن غيره غير ظاهر إلى آخره، أخرجه الشريف الرضي أيضاً.(1/209)
وقال عليه السلام : عينه المشاهدة لخلقه ومشاهدته أن لا امتناع منه.
وقال عليه السلام : باينهم بصفته رَبَّاً كما باينوه بحدوثهم خلقاً - يعني بصفته رباً كونه قديماً لمقابلته بقوله: بحدوثهم خلقاً ـ.
وقال عليه السلام : فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن لم يصفه فقد نفاه. إلى غير ذلك من كلامه عليه السلام ، ومنه يؤخذ نفي أن تكون صفاته تعالى أموراً أو معانٍ أو غير ذلك.(1/210)