دليله: أن جميع العوام وجميع علماء الإسلام لا يقول بذلك أحد منهم غيركم، وبعد فقد تتبعنا لغة العرب والمواضع التي ورد فيها لفظ العلم والقدرة في القرآن، فوجدنا ذلك تارة تطلق على نفس المعلوم كقولهم: هذا علم أهل البيت، وعلم أبي حنيفة، وعلم الشافعي - أي معلوماتهم - ومنه قوله تعالى: ?وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ ? {البقرة:255}، أي من معلوماته، ولو أراد به ما زعموه لما كان للاستثناء معنى، وتارة تطلق على نفس القادر والعالم والحي كقوله في البلد الفلاني حياة وعلم وقوة أي أحياء وعلماء وخلق مقتدرون ومنه قوله تعالى: ?أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ?، أي وهو عالم به، ومنه قولهم: كان حياة فلان يفعل كذا وكذا - أي كان فلان - وإذا كان الأمر كذلك فلا يلزم من إطلاق هذه الألفاظ حصول تلك المعاني، وإن لزم حصولها شاهداً فلا يلزم في الباري كذلك لاستحالة قيام شيء من الأشياء به، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
إلزامات:
منها: أن يقال لهم:لم تكفرون الفلاسفة إن قلتم بإثباتهم العقول القديمة مع العلة القديمة وهي الباري بزعمهم، فما جوابكم عليهم لو أجابوا عليكم إنما عنينا بالعقول القديمة ما عنيتم بالمعاني القديمة، وبقولنا العلة ما عنيتم بقولكم الله، فماذا تجيبون وقد اتفقتم أنتم وهم في المعنى، وإنما اختلفتم في اللفظ والتعبير فقط، وهل ينفعكم الفرار من الموافقة في اللفظ بعد الموافقة في المعنى ؟
وإن قلتم: إنما كفرتموهم في إنكارهم أن الله مريد لأنهم لا يصفون العلة القديمة بأنها مريدة.
قيل لكم: فما جوابكم لو قالوا بل هي مريدة بإرادة قديمة وهي أحد العقول القديمة، وأنتم تقولون الإرادة قديمة وهي أحد المعاني القديمة وإنما الخلاف في العبارة ؟
وإن قلتم: لإنكارهم كونه فعل العالم.(1/201)


قيل لكم: ليس كلهم ينكره بل فيهم من يقر به ويجعل التأثير فيه للعلة والعقول في شرط صحة التأثير، فصار كقولكم التأثير في العالم لله تعالى والمعاني شرط في صحة التأثير، فالخلاف بينكم وبينهم إنما هو في اللفظ والعبارة ولا مشاححة في العبارة، وبعد فالإرادة عندكم يستحيل تخلف المراد عنها وهي أحد المعاني القديمة، وإذا كان كذلك فما استحال تخلف القديم عنه فهو قديم مثله، فيلزمكم موافقتهم في قدم العالم فيرتفع الخلاف بينكم وبينهم في تلك الأطراف ويؤول الشقاق إلى الوفاق ولا مشاححة إلا في العبارة، ولا يلزمنا هذا لأنا لا نقول إرادة الله تعالى قديمة، ولا نقول بوجوب حصول المراد عند حصولها واستحالة تخلفه عنها، ذكر هذا الإلزام الإمام المهدي عليه السلام في الغايات،والقاضي إسحاق العبدي رحمه الله تعالى في الاحتراس، وهو لعمري إلزام جيد لا محيص لهم عنه.(1/202)


ومنها: يقال لهم: ألستم تكفرون النصارى كما كفرهم الله تعالى لما قالوا إن الله ثالث ثلاثة ؟ فلابد من بلى، فيقال لهم: فما جوابكم عليهم إذا قالوا لكم: وأنتم تقولون إن الله ثامن ثمانية: القدرة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والإرادة، والكراهة، والكلام، لكن السمع والبصر هما واحد وهو الإدراك فهذه سبعة، والثامن ذاته تعالى فكانت ثمانية في الوجود القديم الأزلي ؟ فليس من يثبت معه تعالى التعداد إلى ثلاثة في الخطأ إلا دون من يثبت معه التعداد إلى ثمانية، والمشهور عند أئمة النقل عنهم أنهم يقولون: إن الاثنين الآخرين صفتان له تعالى، ويقولون: إنه تعالى واحد على الحقيقة ثلاثة أقانيم على الحقيقة: أقنوم الأب وهو ذات الباري بزعمهم، وأقنوم الابن وهو الكلمة وقيل العلم، وأقنوم روح القدس وهو الحياة،واتفقوا على أنه لم يزل الأب أباً والابن ابنا وروح القدس قابضة بينهما، وإذا كان الأمر كذلك فليس بين قولكم وقولهم في إثبات العلم والحياة والكلام الذي عبروا عنه بالكلمة خلاف إلا أنكم زدتم عليهم بإثبات القدرة والإرادة والكراهة والإدراك حتى أنهيتم الزيادة عليهم بأن صار الباري تعالى على قولكم ثامن ثمانية.
فإن قيل: إنما كفر الله تعالى النصارى لجعلهم المسيح وأمه إلهين، فصار ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار.
قلنا: هذا وجه آخر مما كفرهم الله تعالى به ولا ينافي ما صححه عنهم أئمة النقل، قال الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام : واعلم أن الأشبه عند التحقيق أن مراد النصارى من هذه الأقانيم التي زعموها هو هذه المعاني التي أثبتها هؤلاء الأشعرية، وبيانه أن النصارى يعتبرون في تقرير مذهبهم شرائط ثلاث:
الأولى: وحدة الذات، فإن عندهم أن الله تعالى واحد بالجوهرية.
الثانية: أن الصحيح من مذهبهم أن هذه الأقانيم ذوات مستقلة بأنفسها ليست من قبيل الأحوال والصفات بل ذوات على حيالها منفرة.(1/203)


والثالثة: أن هذه الأقانيم متعددة في أنفسها وأعدادها ثلاثة كما سبق.
وهذه الشرائط لا توجد على الكمال إلا في مذهب الأشعرية، فإن ذات الله عندهم هي أصل لهذه المعاني وهي غير متعددة، وزعموا أن هذه المعاني مستقلة بأنفسها وذوات على انفرادها وهي: القدرة والعلم والحياة وغيرها، وقالوا أيضاً: إن هذه المعاني متعددة في نفسها. فبعضهم زعم: أنها سبعة. وزعم بعضهم: أنها ثمانية. فحصل من هذه الشرائط التي اعتبرتها النصارى في قولهم بالأقانيم لا توجد إلا في مذهب الأشعرية انتهى كلامه عليه السلام في الشامل ذكره عنه في شرح الأساس.
وبعد فإذا كان الله تعالى قد كفر النصارى بقولهم إن المسيح وأمه إلاهَان، وإنه تعالى ثالثهما وأتحد بهما وصار بالاتحاد بهما ذاتاً واحدة. وهي ثلاثة في المعنى مع كون هذا الاتحاد لم يكن في الأزل بل عند وجودهما فقول سُدَى من يقول: إنه تعالى في الأزل اتحد بسبعة أشياء وصار وإياها ذاتاً واحدة وهي ثمانية في المعنى والماهيات، وأنها امتزجت معه امتزاج الصفات بالذات، أَدخل في الخطأ والضلال لإثبات الأكثرية في الامتزاج والتركيب وكون ذلك الأزل إذ يلزم من ذلك إمكانه فيما بعد الأزل من باب الأولى فيكون مصححاً لما قالوه النصارى، وفاتحاً لمثل أقوالهم كقول بعض الصوفية: إنه تعالى اتحد بالكواعب الحسان وما أشبههن من المردان. وقول بعضهم: إنه تعالى اتحد بكل الموجودات حيث قد صح اتحاده تعالى بتلك المعاني في الأزل حيث لم تكن غيره، فإن كانت غيره فأَدخل في الضلال والخبال لأنها تكون آلهة معه.
ومنها: أنه قد انعقد إجماع المسلمين على أن الله تعالى غني عما سواه، فنقضوا هذا الإجماع لأنهم قالوا في هذه المعاني: لولا هي لما كان الله تعالى قادراً عالماً حياً الخ. فقد أحوجوه إليها أبلغ من احتياج الحي في الشاهد إلى الطعام والشراب لأن فقدهما في بعض الأحوال لا يبلغ به إلى هذا الحد.(1/204)


وانعقد الإجماع على: أنه تعالى خالق كل شيء إلا ما خصته الدلالة العقلية والسمعية كذاته المقدسة وأفعال العباد والكسب عند المخالف، فنقضوا هذا الإجماع بإثباتهم معاني لم يخلقها الله تعالى.
وانعقد الإجماع أيضاً على: أن الله تعالى لا يصح أن يكون محلاً لمعنى ولا لغيره، فنقضوه بأن قالوا: إنها قائمة بذاته تعالى. وقولهم: لا على وجه الحلول. غير نافع لأن القيام لا يعقل منه في قيام المعنى بغيره إلا الحلول.
وانعقد الإجماع أيضاً: أن الله تعالى واحد، فنقضوه بإثباتهم هذه المتعددة معه إلى ثمانية، فإن صار معها شيئاً كالجملة الواحدة المركبة من هيئات متعددة فذلك ينافي كونه تعالى واحداً في ذاته، وإن لم يصر معها كالجملة الواحدة كان كل واحد منها مستقلاً في ذاته واجب الوجود على حدته فينقضوا كونه مستقلاً بالوحدانية من باب الأولى.(1/205)

41 / 311
ع
En
A+
A-