شبهة القائلين بأن الصفات ليست هي الذات والجواب عليها
وقد أورد القائلون أن الصفات ليست هي الذات شُبهاً ينبغي معرفة شيء منها ومعرفة الجواب عليه ليعرف به بطلان سائر ما تمسكوا به ويتقرر الحق في القول الأول.
فمنها: شبهة القائلين بأن الصفات أمور زائدة على الذات.
قالوا: لو كانت هي الذات لدل عليها ما يدل على الذات.
قلنا: كذلك نقول ولو سلمتم ما اختلفنا.
قالوا: لو كانت هي الذات لما وجب تكرار النظر لأجل معرفتها لأنها تعلم ضرورة بعد العلم بأنه تعالى فاعل مختار.
الذي ثبت عند الجميع بمجرد العلم بأنه تعالى غير مؤثر على سبيل الإيجاب بل على سبيل الإرادة والاختيار.
قالوا: لو كان تعالى قادراً بمجرد ذاته لكان كل ذات قادرة بمجرد ذاتها، فلم يبق إلا القول بأن كل قادر قادر بصفة زائدة على ذاته.
قلنا: من سلم لكم لزوم ذلك في كل ذات سواه سبحانه لأن غيره من الذوات إما عرض فيستحيل أن يكون قادراً، وإما جسم فإنما استحال أن يكون قادراً بذاته لأن ذاته جسم، فلا بد لها من معنى يقوم بها وهو القدرة الحادثة، وأنتم لا تقولون بذلك في حقه تعالى فكذلك يلزمكم أن لا تقولوا بذلك القياس في إثبات الصفة الزائدة.
وتحقيقه: أنهم قد خرجوا عن مقتضى القياس في إثبات المعنى الذي هو القدرة ونحوها فليخرجوا عن مقتضاة في إثبات الصفة الزائدة والذات كافية في إثبات أنه تعالى قادر عالم ونحوهما.
قالوا: قد ثبت أن الله تعالى مخالف لخلقه إجماعاً، ولا يكفي في المخالفة مجرد الذات لأن الكل ذوات ولا نفس الاتصاف بأنه قادر وعالم وحي لأن غيره قد شاركه في ذلك، فلم يبق إلا القول بأنه مخالف لخلقه بصفته الأخص.(1/196)
قلنا: لا يشترط في حصول المخالفة وجود أمر مختلف في كل من المختلفين، بل يكفي في حصوله وجوده في أحد المختلفين دون الآخر، وحينئذ فيكون الاختلاف بينه تعالى وبين خلقه بأن ذواتهم أجسام وأعراض دون ذاته تعالى فليست بجسم ولا عرض، فحصل الاختلاف بذلك من دون أن يثبت في ذاته تعالى أمراً زائداً على ذاته كما ترى، وهذا واضح.
ومنها: شبه القائلين بالمعاني، قالوا: العالم في الشاهد من له علم محدث عرض يحل القلب تارة يكون ضرورياً، وتارة يكون استدلالياً، وتارة يكون تصورياً، وتارة يكون تصديقاً، وتارة موجوداً، وتارة معدوماً، ويتعلق ببعض المعلومات دون بعضها، وكذلك القدرة والحياة أعراض محدثة حالة في جملة الشاهد وتتعلق القدرة ببعض المقدورات دون بعض، وتارة تزداد، وتارة تنقص، ويوجد في بعض الشاهد منها مالا يوجد في الآخر كقدرة الطير على الطيران، والخيل الجياد على الجري الشديد السرعة المعتذرة على غيرها من نحو الإنسان، والحياة تزول بطروءِ الضد وهو الموت، فإن أجروا القياس على الشاهد وجوزوا هذه الأوصاف والأحكام في الباري تعالى فهو كفر إجماعاً، وإن خرجوا عنه فما هم بأولى بالخروج عنه منا.
وبعد فيقال لهم: ما نتيجة هذه الثلاثة التي هي القدرة والعلم والحياة في الشاهد ؟
فإن قالوا: نتيجتها صحة الفعل المحكم، وعدم خفا المعلوم عليه.
قلنا: فلتكن هذه الثلاثة عبارة في حقه تعالى من تلك النتيجة بنفس ذاته لاستحالة تلك الأمور الثلاثة التي هي القدرة والعلم والحياة في حقه تعالى، وتكون تلك النتيجة ثابتة له تعالى لأجل ذاته تعالى لا لأجل شيء سواها.(1/197)
والتحقيق: أن الشاهد لما كان جسماً والجسم من ذاته لا يصح أن يكون قادراً عالماً حياً لا بقدرة وعلم وحياة احتاج إلى هذه المعاني ليصح منه الفعل المحكم ويكون المعلوم معلوماً له،والباري تعالى لما خالف الجسم من حيث أنه تعالى ليس بجسم استغنى عن هذه الثلاثة المعاني تعالى إذ لا تقوم إلا بالأجسام وليس بجسم كما تقرر، وهذه الشبهة هي أعظم شبههم، واحتج لصحتها السعد في شرح العقائد النسفي بأن قال: إن المعتزلة في نفيهم المعاني المذكورة بمثابة من يقول: أَسود من دون سواد.
والجواب عليه: يقال له من أين لك صحة هذا القياس ؟ أوليس أن السواد من صفات الأجسام وليس من صفاته تعالى، فأين المصحح للقياس في حقه تعالى ؟ وقد استحال الأصل المقيس عليه في حقه تعالى وهو السواد بلا تناكر.
والتحقيق في الجواب: أن السواد لما كان من صفات الأجسام وكون الجسم أسود وصفاً زائداً على ذات الجسم كان لابد في وصفه بأسود من ثبوت السواد فيه، وكذلك وصف الجسم بأنه قادر عالم حي لما لم يكن لذاته كان لابد في وصفه بأنه قادر عالم حي من وجود القدرة والعلم والحياة فيه، ولا كذلك الباري تعالى في الأصل المقيس عليه وهو السواد حيث لا يقال تعالى أسود من دون سواد، فلا يصح لك حينئذ القياس إلا لو ثبت أنه تعالى أسود واستحال أنه أسود بلا سواد، وهذه القضية منتفية عن الباري تعالى بالإجماع فكيف يصح القياس عليها في وجوب أن يكون قادراً بقدرة ونحو ذلك، واستحالة أن يكون قادراً بلا قدرة ونحو ذلك.
فإن قال: قياساً على الشاهد ؟.(1/198)
قلنا: لا يصح هذا القياس إلا بعد الجامع بين الأصل والفرع، وهذا الجامع بين الأصل وهو السواد والفرع وهو القدرة ونحوها هو نفس الجسمية وهو حاصل في الشاهد دون الغائب، فلم يصح القياس أصلاً، ولما ثبت بالأدلة العقلية والنقلية واتفق الجميع على أن الله تعالى قادر عالم حي، وكانت القدرة والعلم والحياة أعراض محدثة الماهية والآنية لم يبق إلا القول بأنه تعالى قادر عالم حي بلا قدرة ولا علم ولا حياة، ويكون المراد من وصفنا له تعالى بأنه قادر عالم حي ثبوت نتائج ذلك وهو صحة الأفعال المحكمة منه تعالى وعدم خفا شيء عليه لذاته لا لشيء زائد على ذاته، وهذا واضح كما ترى.
وبعد فيقال له: والأشعرية في قولهم: إن القدرة والعلم والحياة قديمة قائمة بذاته تعالى غير حالة فيه لا هي هو ولا غيره، بمثابة من يقول أن السواد قديم قائم في الأسود وليس حال فيه ولا هو الأسود ولا غيره، فإذا كان هذا محالاً، فلنحل ما أقاسه عليه والفرق تحكم وإلزام ذلك جهالة مفرطة، وهذا واضح.
قالوا: لو كان قادراً بذاته عالماً بذاته لكان ما قدر عليه هو عين ما علمه، فيجب أن يكون قادراً على ذلك لأنه عالم لذاته.
قلنا: ومن أين يلزم هذا ؟ أوليس أن ذاته من جملة المعلومات وليست من جملة المقدورات، لأن صفة عالم تتعلق بالمقدورات وغيرها، ولا تتعلق صفة قادر إلا بالمقدورات فلا يلزم ما ذكروه، وبعد فهذا وارد عليهم لأنهم موافقون أن الله تعالى عالم بنفسه، فيجب أن يكون قادراً على نفسه كما أنه عالم بنفسه، ولا فرق بين أن يكون ذلك لمعانٍ كما يقولون أم لا، فما أجابوا به فهو جوابنا.
قالوا: يصح الأمر بتحصيل العلم وذلك لا يستقيم إلا على القول بأنه معنى.
قلنا: يصح الأمر ممن وعلى من ؟ فإن الاحتجاج بذلك ما قد كمل حتى تبينوا ممن وعلى من.(1/199)
فإن قالوا: من الله علينا. فمسلم وليس هو أمر بتحصيل نفس العلم لأنه غير مقدور لنا ابتداء، وإنما هو مسبب عن النظر الموصل إليه فالأمر به أمر بسببه وهو النظر.
وإن قالوا: من غير الله على الله تعالى. فهو باطل، فلا وجه للتمسك في هذه المسألة بالمقدمة الأولى مع استحالة الأخرى.
قالوا: قول أهل اللغة: زيد عالم، وزيد قادر، إخبار عن حصول معنى قائم به، فيجب أن يكون قول الله تعالى في كتابه وعلى ألْسِنَة رسله وقول الموحدين الله أعلم، والله إخبار عن حصول ذلك المعنى له قائم به تعالى.
قلنا: هذا من جنس الشبهة الأولى وقد مر جوابها مستوفى فليؤخذ جوابها منه، ويختص هذا المكان بأن يقال: ومن أين لكم أن أهل اللغة إنما أرادوا الإخبار بأن لزيد قدرة وعلم ؟ وإن سلم فمن أين لكم أن الله تعالى ورسله وكل واحد من الموحدين أراد في قوله: الله عالم، والله قادر الإخبار بأن له قدرة وعلم، وإن سلم فمن أين لكم أن المراد تلك القدرة والعلم ونحوها هي المعاني التي زعمتموها لأن الظاهر من اللفظ والمتبادر إلى الفهم منه عنه أن يقال الله قادر والله عالم، الإخبار بأنه يقدر على الأشياء وأنه يعلمها لا أن المراد له قدرة وعلماً قديمين قائمين به لا على وجه الحلول فلم يتطرق إلى فهم أحد سواكم.(1/200)